في بلد يضم أكثر من”30,000″ مدرسة، لا يجب أن يكون افتتاح ثلاث مدارس أخرى مدعاة للقلق. لكن الأخبار التي ظهرت الشهر الماضي بخصوص صياغة الحكومة الألمانية إطارًا قانونيًا لافتتاح ثلاث مدارس تركية في البلاد أثار عاصفة سياسية بسيطة، والكثير من محاسبة النفس على المستوى الثقافي.
وقد عبر الساسة اليمينيون المتطرفون، كما هو متوقع، عن أسفهم لـ”أسلمة نظام التعليم الألماني”. وساد الغضب أيضًا بين السياسيين البارزين.وقال “ماركوس بلوم”، عضو تحالف يمين الوسط الحاكم بزعامة أنجيلا ميركل: “لا نريد مدارس أردوغان في ألمانيا”. وعلى مستوى الأحزاب اليسارية، قالت “سيفديم دايدلينن”، عضو اشتراكي في البوندستاغ “البرلمان الاتحادي”، والتي بالمناسبة ترأس أيضًا مجموعة العمل الألمانية التركية في البرلمان الألماني، إن المدارس ستكون “مفسدة للاندماج والديمقراطية”.
وكانت معظم المخاوف بشكل عام حول الإسلام، وبشكل أكثر تحديداً حول الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وهو شخصية مثيرة للانقسام بدرجة كبيرة فيألمانيا.
وفي دولة فرنسا المجاورة، حدث نقاش مماثل في العام الماضي بعد أن أعرب أردوغان عن رغبته في فتح مدارس تركية في فرنسا. ويبدو أن تلك الخطط قيد الدراسة، ولكنها أثارت نفس المخاوف من أن المدارس قد تروج لنسخة متشددة من الإسلام، وأن أردوغان قد يستخدمها تحديدًا لبسط نفوذه.
وتبالغ كلتا الدولتين في مخاوفهما. وهناك أسباب وجيهة للقلق بشأن افتتاح المدارس التركية في ألمانيا، ولكن الأسباب جميعها تتعلق بألمانيا نفسها.
وهناك أيضًا مبالغة في الخوف من “انتشار التعاليم الإسلامية”. وتفوق المساجد في ألمانيا عدد مدارس اللغة التركية، وهناك منظمة تركية جامعة تدير ما لا يقل عن 900 من تلك المساجد. وتبحث الحكومة بالفعل عن وسائل لتنظيم شئون أئمة تلك المساجد، والتي سيكون لها دور كبير في توحيد طرق التدريس بدلاً من القلق من ثلاث مدارس.
كما أن نفوذ أردوغان الشخصي ليس بالخطورة كما يبدو.فجميع المدارس الخاصة ملزمة بتقديم مناهجها الدراسية للحصول على موافقة الدولة، لذلك من غير المرجح أن تصبح المدارس التركية لسان الرئيس التركي.
ويجب أن يكون الشاغل الحقيقي هو ما تعنيه تلك المدارس لألمانيا نفسها، وعلى وجه التحديد، دورها في دمج الأقليات التركية في ألمانيا والتي تواجه بالفعل علاقة معقدة مع أكبر مجموعة من الأقليات فيها. وتبين الدراسات الاستقصائية بانتظام أن ثمة فكرين متناقضين بشكل واضح بين الأقلية التركية: فهناك الرغبة المتزايدة في الاندماج في المجتمع الألماني، وزيادة التدين والشعور بالقرابة مع تركيا.
وازدادت العلاقة بين البلدين تعقيدًا بسبب جوازات السفر.وعلى عكس معظم الدول الأوروبية الكبيرة، لا يمكن لشخص من خارج الاتحاد الأوروبي أن يكون مزدوج الجنسية، وهي قاعدة تؤثر على المجتمع التركي بدرجة كبيرة. وحتى عام 2014، كان على أطفال الآباء المهاجرين الذين يريدون الجنسية الألمانية التخلي عن جنسية والديهم، الأمر الذي يولد مشاكل في مجتمع ما زال يحتفظ بعلاقات تجارية واجتماعية وشخصية قوية مع تركيا.
لكن السياسة مهمة أيضا. ولأنها أكبر أقلية مسلمة في ألمانيا، أثرت فترة ما بعد 11سبتمبر بشكل كبير على الأتراك.وفي السنوات الأخيرة، وجد أردوغان أنه من المناسب القول أن الأتراك في الخارج يعانون من التمييز. وهو في واقع الأمر يدلي برأيه الشخصي حول فكرة أن التمييز هو السبب في فشل تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
ومع تدهور العلاقات بين ألمانيا وتركيا، وخاصة منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016، تدهورت أيضًا العلاقات بين الألمان والجالية التركية داخل ألمانيا.وكان الاستفتاء على الدستور التركي في العام 2017مرحلة بالغة الصعوبة، حيث شجع أردوغان التجمعات الداعمة له على الاحتشاد في المدن الألمانية، وألغت السلطات الألمانية بعض تلك التجمعات، مما أدى إلى تدمير العلاقات أكثر مما هي عليه.وفي ظل تلك الدلائل، يمكن لمدارس اللغة التركية التصرف بطريقة تسبب لهم المشاكل مستقبلاً.
ومن المفترض أن التعليم الخاص مكلف عادة. وفي ألمانيا، تحصل المدارس الخاصة على دعم من الدولة، وتميل الرسوم إلى أن تكون بسيطة.ويلتحق”9%” من الطلاب في ألمانيا إلى التعليم الخاص، ويختار الوالدان التعليم عادة لأسباب تتعلق بالدين أو اللغة. ونظرًا لصعوبة اندماج الأتراك في المجتمع الألماني، فمن غير المعقول تخيل كيف لمدارس اللغة التركية أن تنتشر بسرعة.
إن التعليم والاندماج من الموضوعات المثيرة للجدل.ومن الواضح أن هناك طلبًا لتدريس اللغة التركية -وهو مطلب لا يستطيع نظام التعليم الحكومي الألماني تلبيته.ومن ناحية أخرى، ومع تنامي قوة تركيا ونفوذها، يمكن أن تكون تعلم اللغة التركية مفيدًا لمن هم خارج المجتمع التركي الألماني أيضًا.ولكن بالنظر إلى تفاصيل الاندماج في ألمانيا، فمن الحكمة التعامل مع هذا الموضوع بحذر. ومن شأن المدارس التركية التي تقدم مناهجها باللغة التركية فقط أن تعزز العزلة الثقافية. إن العزلة اللغوية قد تكون مدمرة بنفس قدر العزلة الجغرافية، وبالتأكيد ستكون الأولوية السياسية الآن هي تثبيط المجتمعات المختلفة عن العيش في حياة تتوازي مع بعضها البعض ولكن نادرًا ما يمكنهم الاندماج فيها.
والآن، وبما أن الإطار القانوني قيد المناقشة، فقد حان الوقت للنظر في هذه القضايا.والآن ستكون اللحظة المناسبة لتوضيح قدر معين من الإرشادات الخاصة باللغة الألمانية. فعلى سبيل المثال، تجعل اللغة الشخص قادرًا على التعبير عن مشاعره، ولكن أي مقيم في بلد لا يجيد لغة ذلك البلد سيفتقد تلقائيًا تلك الميزة.وهذا صحيح سواء وصل الوالدان من “وارسو”أو “أنقرة”، أو ما إذا كانوا “سوريين”يفرون من حرب الأسد، أو بريطانيين فارين من بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.
يؤلف “فيصل اليافعي” حاليًا كاتبًا عن الشرق الأوسط، وهو معلق دائم لدى الشبكات الإخبارية التلفزيونية العالمية. عمل “فيصل” لدى وكالات أنباء مثل “الجارديان” و”بي بي سي”، وكتب تقارير عن الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا.