لطالما اعتبر الكثيرون في المجتمع الاستثماري المملكة العربية السعودية وجهة غير جذابة لأموالهم -حقاً أكان أم باطلاً -كما اعتبرها المغتربين مكاناً يصعب العيش فيه. واشتكى المستثمرون الأجانب من عدم وجود ما يكفي من الشفافية وحالهم حال العديد من المهنيين الذين عملوا في المملكة وعاشوا فيها على الرغم من نوعية الحياة فيها. والواقع أن كلّ موظف تعيّنه مؤسسة عالمية غربية ليشغل منصب في المملكة وكل دبلوماسي يتم تعيينه ضمن البعثات الدبلوماسية الغربية لدى المملكة كان وحتى الآونة الأخيرة يحصل على ما لقّب بـ “أجر المشقة” للتعويض عن “الحرمان” الذي يتحمله هؤلاء في نظر. وتركت هذه التصورات المملكة العربية السعودية في وضع غير مؤات لجذب الاستثمارات والمواهب حيث فضل العديد من المغتربين الإقامة في البلدان المجاورة، فلا يزورون المملكة إلا عند الضرورة ولحضور الاجتماعات.
أما الآن فتهب رياح التغيير وسيتعين على بلدان الخليج المجاورة التكيف مع نموذج اقتصادي وتجاري واجتماعي جديد فرضته عاصفة الانفتاح في المملكة العربية السعودية ولا يجدر أن يعتبر ذلك مجموع صفري حيث أن التغييرات في السعودية تبشر بالخير للمنطقة ككل.
وفي خلال العامين الماضيين، نفذت المملكة سلسلة من الإصلاحات الاجتماعية والمالية التي تشير إلى تغير ملحوظ في السياسة العامة.
وبدايةً يجدر الذكر بأن طبيعة الإصلاحات التي يتم تطبيقها ليست سياسية، على الرغم من أن تمكين المرأة في حياتها عمل اجتماعي وسياسي على حد السواء. ولا شكّ في أن تخفيف الحكومة للقيود الاجتماعية سيؤدي إلى تحسين نوعية الحياة، مما يجعل المملكة العربية السعودية أقرب إلى معايير الاجتماعية المتبعة في دول الجوار. ويعني ذلك التحول في المعايير الاجتماعية المعتمدة رسمياً أن السعودية تعمل على تضييق الفجوة الاجتماعية مع دول الخليج والدول الإقليمية.
أمّا بعد، وبناتج محلي إجمالي يزيد عن 600 مليار دولار، فإن اقتصاد المملكة ضخم وفي الواقع فهو أضخم من أي اقتصاد دولة عربية أخرى لا تفوقه سوى تركيا على مستوى الشرق الأوسط. ووفقاً لتقرير صدر عن البنك الدولي في العام الماضي، “نفذت المملكة العربية السعودية أكبر عدد من الإصلاحات {المالية} في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” وبالتالي فإن اقتصاد المملكة العربية السعودية يستعد لنمو متزايد.
وإن المملكة الدولة العربية الوحيدة التي انضمت إلى مجموعة العشرين التي تضم أكبر الدول الصناعية في العالم، وستستضيف السعودية اجتماع قمة المجموعة في عام 2020. فعلاً، ولّت الأيام التي كنات ترفض فيها السعودية مقعداً في مجلس الأمن الدولي، كما فعلت في عام 2013، فالمملكة العربية السعودية الجديدة حريصة على ممارسة كل من قوتها الناعمة وقوتها الصارمة على حد سواء، وعندما تشعر أن هذا سيخدم مصلحتها متى وحيث يعود ذلك عليها بالفائدة. وبالتالي، فإن المملكة العربية السعودية مستعدة لتلعب دور أكبر على الساحة الدبلوماسية إقليمياً وعالمياً.
وفي اعتبارنا لهذه التغيرات المحتملة، تجدر الإشارة إلى أن المملكة العربية السعودية هي الدولة الخليجية الوحيدة التي لم تتردّد من منح جنسيتها للمهاجرين وفتحت المجال لذلك بسبب حجم قاعدتهاالسكانية التي تزيد عن 20 مليون نسمة فلا يشعر شعبها بالتهديد إزاء إضافة بضعة آلاف من المواطنين المجنسين كل عام. أما هؤلاء المواطنون الجدد، فمعظمهم من بلدان إسلامية، يضطرون إلى التحدث باللغة العربية بسبب طبيعة الحياة في البلد وبالتالي يكون اندماجهم الثقافي أسهل على نقيض دول خليجية أخرى حيث تتنافس لغات أخرى مع اللغة العربية. وسيساهم ذلك في التخفيف من تردد المغتربين غير الغربيين إزاء العيش في البلد من الآن فصاعداً ممّا يفتح أمام السعودية مجال الاستفادة من مجموعة أوسع من المواهب مقارنة بالدول المجاورة وبما يضمن الاستمرارية.
وهل يجدر على دول الخليج الأخرى أن تقلق من تأثير الاقتصاد السعودي الصاعد على فرصها؟ من ناحية، سوف يمتد الأثر الإيجابي على الجميع وفيما يزداد الاقتصاد السعودي نمواً، تستفيد الدول المجاورة من زيادة الصادرات وفرص الاستثمار. ومن ناحية أخرى، فإن لم تطلق الدول الخليجية الصغيرة إصلاحات بأسرع وقت فقد يؤثر التقدم الاقتصادي للمملكة العربية السعودية سلباً على اقتصاداتها. ولذلك فعليها أيضاً بالانفتاح.
ويتعين عليها التغيير للحفاظ علی ميزاتها التنافسية وذلك عبر إصلاح قطاع الاتصالات المقيِّد، ورفع مستويات شفافية الشرکات، ورفع سقف الشرکات ذات الملکیة الأجنبية، والحد من الفساد، والتشديد في حمایة حقوق الملکیة الفکریة، فضلاً عن إصلاحات أخرى تشمل حماية قوية لحقوق مساهمي الأقلية، وضماناً لاستقلال القضاء، وتحسين حماية العمل وحقوق الإنسان. كما يجدر عليها تقديم تأشيرات إقامة طويلة الأجل لجذب المواهب العالمية واستبقائها كما قد تحتاج إلى تجنيس المغتربين، وخاصة أولئك الذين استثمروا وقتهم ومهاراتهم لتنمية هذه الدول. فإن المنافسة على المواهب في جميع أنحاء العالم قوية، ولا تستطيع المنطقة أن تخسّر نفسها أهم سلعة في العولمة.
ولعلّ أحد المجالات التي تنافس دول الخليج الصغيرة فيها المملكة العربية السعودية هي الحياة الليلية الأكثر انفتاحا. ومع ذلك، فقد يصبح حجم وتنوع الفرص الجديدة التي تقدمها المملكة العربية السعودية أكثر جاذبيةً من الحياة الليلية الأكثر انفتاحاً في دول الخليج الأخرى.
على الرغم من كون احتمال تدافع الشركات للانتقال من دول الخليج الأخرى إلى المملكة العربية السعودية احتمالاً ضئيلاً، فلعلَ العديد منها ينظر في هذه الاحتمالية. منذ بضع سنوات، شاركت في حلقة نقاش مع رجل أعمال سعودي يدير شركة استثمارية كبيرة. وسلط الضوء على جاذبية دبي وقال: “لقد أرسلت بريداً إلكترونيا ً لموظفي شركتي والبالغ عددهم 140 موظف فطلبت منهم الإجابة على السؤال التالي بـ”مع” أو “ضد”: ما رأيك في نقل الشركة بمجملها إلى دبي في العام المقبل؟”. وقال رجل الأعمال إنه فتح بريده الإلكتروني في الأسبوع التالي ليجد أن ردّ جميع الموظفين كان “مع”.
ومن المرجح أنه وإن طرح نفس السؤال على موظفيه اليوم، فلربّما وجد أن عدد لا بأس به من الموظفين يفضّل البقاء في المملكة العربية السعودية. ولعلّه من الجدير أن تتمعّن الدول الخليجية الصديقة للمملكة بهذه الفكرة.
سلطان سعود القاسمي كاتب ومعلّق مقيم في الإمارات العربية المتحدة.
AFP PHOTO / FAYEZ NURELDINE