إن المتابع للأحداث المفجعة في غزة هذا الشهر سيكون له العذر إذا ما اعتقد أن الفلسطينيين والإسرائيليين، ورغم جميع آمال التقارب التي تبددت مؤخرًا وفي الوقت الراهن، فإنهما عالقان في دائرة العداوة الحتمية والتي يمكن التنبؤ بها كالمد والجذر. على مدار الثلاثين سنة الماضية، ذهبت وجاءت خطط السلام وخرائط الطريق، والتي كانت الولايات المتحدة وسيطًا فيها في كثير من الأحيان، مثل اتفاقيات مدريد، وأوسلو، وواي ريفر، وكامب ديفيد، وطابا، وبيروت، و”البداية الجديدة” لأوباما، وواشنطن، وخطة عباس، وصولاً إلى رؤية ترامب “للازدهار”. وكان الأمل هو أساس تلك الاتفاقيات، وازدهر بعضها لفترة وجيزة، ولكنها ذبلت جميعًا في نهاية المطاف في تربة فلسطين المملحة.
ورغم وقف إطلاق النار بشق الأنفس وإنهاء 11 يومًا متتاليًا من الرعب، اكتسب قادة العالم الثقة مرة أخرى بطريقة أو بأخرى لاكتشاف جمر الأمل في أنقاض غزة المحترقة. وأشاد الرئيس الأمريكي “جو بايدن” بما اعتبره “فرصة حقيقية لإحراز تقدم”. وقال “أنطونيو غوتيريش”، الأمين العام للأمم المتحدة، إن القادة في إسرائيل وفلسطين يتحملون مسؤولية “بدء حوار جاد لمعالجة الأسباب الجذرية للصراع”.
ومرة أخرى.
يعلم الجميع، بدءًا من تلاميذ المدارس في غزة وإسرائيل وصولاً إلى شيوخهم وقادتهم، الأسباب الجذرية للصراع. وخلال الحرب العالمية الأولى، منحت بريطانيا أرض فلسطين سراً إلى اليهود لتكون “وطنًا قوميًا” لهم، ومن هنا نشأت دولة إسرائيل وما أعقبه من تهجير (مستمر) للعرب من أوطان أجدادهم.
وهذا هو التاريخ لا يتبدل، سواءً كان عادل أو مجحف. وجاءت إسرائيل هنا لتبقى.
ومع ذلك، فإن ما يمكن فعله هو أن يتحمل الأشخاص العاديون في طرفي النزاع مسؤولية الارتقاء فوق الروايات السامة التي يفرضها السياسيون المنتفعون ولا يكترثون بالتعايش السلمي للبشر، بل باستغلال الاختلافات المصطنعة من أجل تحقيق طموحاتهم السياسية الخاصة.
في الأسبوع الماضي، اتُهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علانية بمهاجمة غزة لصرف الانتباه عن “مشاكله الداخلية”، في محاولة ساخرة منه للبقاء في السلطة. ومن الصعوبة بمكان قطعًا أن نرى كيف يمكن لأي زعيم أن يسمح بتنفيذ عمليات مرعبة كالذي وقع على غزة هذا الشهر. ومهما كانت مكاسب أي من الطرفين، فإنه من الواضح بمكان عدم توازن القوة بين الفلسطينيين في غزة ودولة إسرائيل بالنظر إلى العنف الدائر على مدار “11” يومًا: حيث فقد 12 إسرائيليًا حياتهم، مقابل 230 فلسطينيًا، من بينهم أكثر من 60 طفلاً.
وتستمد حماس هي الأخرى قوتها من استمرار التشبيهات المعادية للسامية، وخوض الحروب التي انتهت منذ فترة طويلة، وتتحمل عبئًا متساويًا من المسؤولية عما يبدو أنه حلقة لا نهاية لها من الكراهية وانعدام الثقة التي تؤذي الأشخاص الذين تدعي أنهم يمثلونها أكثر من أي شخص آخر.
وليس صعبًا تشويه صورة الناس، حتى جيراننا المقربين، لتقديمهم كتهديد لأسلوب حياتنا. ويلجأ السياسيون في كل مكان إلى هذا التكتيك المخزي للبقاء في السلطة.
لا يوجد مثال على شيطنة الآخرين أفضل من إلقاء اللوم بشكل فاضح على الأجانب بشكل عام واللاجئين على وجه الخصوص وذلك قبيل تصويت بريطانيا على مغادرة الاتحاد الأوروبي – وهو تصويت أدلى به الكثيرون ولديهم قناعة خاطئة بأن جميع مشاكلهم يتحملها كل من يخالفهم في المظهر أو اللغة أو العبادة.
ومن الصعوبة بمكان مقاومة هذا النوع من التلاعب، كما أثبتت مصيبة فلسطين على مدى أجيال. ولكن هذا ممكن في ضوء الأحداث الاستثنائية التي وقعت على بعد 4000 كيلومتر من غزة في وقت سابق من هذا الشهر.
وفي عام 2016، رفضت مدينة غلاسكو في اسكتلندا الدعاية المناهضة للأجانب التي أطلقتها حملة “ارحلوا”، وصوتت بأغلبية ساحقة لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. وفي هذا الشهر، أظهرت المدينة التعاطف الإنساني والذي تجسد في هذا التصويت، عندما أقدم حشد كبير، معظمه من البيض، على منع ترحيل اثنين من جيرانهم الهنود، أحدهما طاهٍ والآخر ميكانيكي، واللذان عاشا في المنطقة لسنوات ويُشتبه في كونهما مهاجرين غير شرعيين.
ووقع الاحتجاج، والإفراج الناجح عن الرجلين من الحجز، في شارع كينمور في بولوكشيلدز، وهي منطقة أغلبها من الطبقة العاملة من البيض، ويقطنها عدد كبير من الهنود والباكستانيين. وكان من المتوقع، بالنظر إلى نوع المنطقة فقط مع اتباع الصورة النمطية عن تلك المنطقة، أن يكون ثمة رد دعاية صافرة الكلاب التابعة لحملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وبدلاً من ذلك، احتشد المئات من السكان المحليين لدعم رجلين لا يرون أنهما أجانب، ولكن كجزء من مجتمعهما، حيث تم إطلاق سراحهما أولاً من شاحنة احتجاز تابعة “لوكالة مراقبة الحدود البريطانية”، ثم اصطحبوهما إلى مسجد محلي، حيث التقيا بالأصدقاء والعائلة. بل أن الشرطة أوضحت أنها كانت موجودة للمحافظة على السلامة العامة، ورفضت التدخل.
وفي وقت لاحق، تحدث الرجلان وعائلاتهما عن دهشتهم وامتنانهم للدعم الذي تلقوه من المجتمع.
إن غلاسكو ليست غزة بالطبع، والمملكة المتحدة ليست إسرائيل. ولكن ما أظهرته المعجزة في شارع “كينمور” هو أن الناس لديها قدرة فطرية على إظهار الإنسانية الأساسية فيما بينهم. فلنتركهم لحياتهم الخاصة – للعيش والعمل واللعب مع الآخرين طلبًا للسعادة اليومية البسيطة – إذ لا يمكن للمجتمعات ذات الخلفية الثقافية شديدة الاختلاف أن تكون واحدة، ويمكنها أيضًا التصدي لمحاولات التفرقة بينهم من جانب السياسيين والحكومات.
جوناثان جورنال، صحفي بريطاني، عمل في وقت سابق لدى صحيفة “التايمز”، وقضى فترة من حياته في منطقة الشرق الأوسط وعمل بها، ويعيش الآن في المملكة المتحدة.