من الواضح والجلي أن سلسلة الإمداد الغذائية العالمية تعتمد على دولة واحدة فقط، مثلها مثل أنظمة الإنتاج القديمة الأخرى التي أثبتت فشلها نتيجة لسنوات من الوباء وإعادة النظر في المعايرة الجيوسياسية. إن الطريقة التي ننتج ونوزع من خلالها الغذاء تحتاج إلى تغيير جذري، ومركزية إنتاج القمح الأوكراني هو أحد تلك الأمثلة المتطرفة التي أماطت اللثام عن الروابط الهشة التي يقوم عليها النظام الغذائي.

وتعتبر أوكرانيا وروسيا وبيلاروسيا من كبار منتجي الغذاء الذين يواجهون أزمة كبيرة نتيجة للصراع في المنطقة، وقد صرح صندوق النقد الدولي الأسبوع الماضي إن أزمة الغذاء هذه سيكون لها تأثير كبير على الاقتصاد العالمي، وحذر الصندوق من أنه “في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية، يمكن أن تؤدي الزيادات في أسعار الغذاء والوقود إلى مواجهة أخطار الاضطرابات الاجتماعية بشكل كبير”، ومن المتوقع ارتفاع أسعار المواد الغذائية العالمية بشكل كبير بفضل الحرب الدائرة في أوكرانيا، مما سيؤدي إلى نقص الغذاء في العديد من بلدان الأسواق الناشئة، حيث بدأت تظهر التداعيات السياسية والاقتصادية بالفعل في سريلانكا، ومصر وتونس وبيرو.

وقد تفاقمت الأزمة بسبب روسيا التي تعد مصدر رئيسي للطاقة، وتواجه البلدان التي تحاول زيادة إنتاجها الغذائي تحديات إضافية تتعلق بالطاقة والأسمدة، والنظام في طور السقوط وستدفع الدول النامية ثمناً باهظاً لأشهر، إن لم يكن لسنوات قادمة.

وأدت خطورة الموقف إلى تعالي صيحات تطالب بالتدخل، حيث دعت كبريات الصحف الغربية مثل الفايننشال تايمز الدول الغنية للتدخل ومساعدة الدول الفقيرة خلال هذه الأزمة، وأعلنت الصحيفة في مقالة افتتاحية حديثة: “اعتبر البعض أن الدول الغنية تخلت عن الفقراء أثناء الوباء بسبب إمدادات اللقاح، لكن يجب ألا يتخلوا عنهم في أزمة الغذاء.”

وقد تم اطلاق مبادرة عالمية تسمى مهمة الابتكار الزراعي للمناخ بقيادة الولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة في شهر فبراير، بقيمة 8 مليارات دولار لجعل الزراعة أنظف وأكثر كفاءة، وستركز المبادرة على الاستثمارات في مجالات (التكنولوجيا الزراعية) مثل التقنيات النانوية والتقنيات الحيوية والروبوتات والذكاء الاصطناعي.

وتعد هذه المبادرة بالغة الأهمية، لكن الدول الغنية تضخ الأموال لتجاوز المشكلة وتعزز سلسلة التوريد الحالية، ولكن ذلك وحده لن يحل المشكلة على المدى الطويل، وفي أحسن الأحوال، سيكون عبارة عن تدبير مؤقت لوقف المعاناة الفورية، لكن الحل سيتطلب تفكيرًا أعمق بكثير. وستستقر مستويات الإنتاج والأسعار في النهاية، لكن الأزمة هذه هي الشعلة المثالية التي قد تشعل ثورة في إنتاج الغذاء وتوزيعه.

وتمتلك التكنولوجيا الزراعية الحل لمشكلة نقص الغذاء، تمامًا مثل السيارات الكهربائية التي حلت كبديل مستدام لمشكلة النفط وأزمات المناخ، ويكمن التحدي في أن العديد من الشركات الناشئة العاملة في هذا القطاع لا تزال تفتقر إلى الاستثمارات الهامة والقبول من طرف الجمهور، وهما عنصران ضروريان لتحويل دفة ومسار إنتاج الغذاء.

وهناك حاجة إلى تغير في المنظور والتصور بشأن الغذاء لشركات التكنولوجيا الزراعية لرفع مستويات رأس المال المطلوب لتحدي النماذج التي عفا عليها الزمن لإنتاج الغذاء مثل ذلك الذي نشاهده بسبب الصراع في أوكرانيا، لكن لن يكون ذلك سهلا، فقبل 20 عامًا فقط، بدت السيارات الكهربائية بعيدة عن متناول أيدي معظم الناس، بسبب تكلفة إنتاجها وتشغيلها، ولكن مع القفزات الهائلة في التكنولوجيا، انخفضت تكلفة السيارات الكهربائية، وتدل أرباح شركة تسلا الهائلة على مدار العامين الماضيين على أن التغيير ممكن.

فأين هي شركة التكنولوجيا الزراعية التي تشبه شركة تسلا؟ لا توجد شركة صغيرة ذات رأس مال يتجاوز المليار دولار في هذا القطاع حتى الآن ولكن هناك العديد من الشركات الناشئة في جميع أنحاء العالم التي يمكن أن تتطور لتصبح شركة ضخمة، وبسبب التحديات الطبيعية التي يواجها الشرق الأوسط حول إنتاج الغذاء والماء، فإنه هو المكان المثالي لشركة تكنلوجيا الزراعة في المستقبل. ويوجد بالفعل قطاع تكنولوجيا زراعي نابض بالحياة يمتد من إسرائيل إلى الإمارات العربية المتحدة، وحققت دول الخليج، على وجه الخصوص، نجاحًا كبيرًا في تقنيات الزراعة الحضرية مثل الزراعة العمودية القادرة على إنتاج الغذاء باستخدام القليل من المياه، كما تعتبر إسرائيل دولة رائدة عالميًا في تقنيات الري المائي المصمم للحصول على الكثير من إنتاج الغذاء من القليل من المياه.

وبينما يدور الكثير من الحديث حول التكنولوجيا الزراعية في المنطقة، لا يزال هذا القطاع يمثل أرض خصبة لاستثمارات إضافية، حيث قامت شركة “رايت فارم”، وهي شركة إماراتية بإنشاء منصة رقمية للأعمال التجارية للحصول على المنتجات الطازجة، وجمعت 2.8 مليون دولار من مستثمرين بما في ذلك منصة المشاريع التابعة لشركة أبوظبي الحكومية “القابضة” لكن هذا ليس استثمارًا كافيًا لإحداث ثورة حقيقية في هذا القطاع.

ويعتبر الصراع في أوكرانيا بمثابة جرس إنذار ينذرنا أن سلسلة الإمدادات الغذائية العالمية مدمرة بشكل لا يمكن إصلاحه، وستزداد مشكلة انعدام الأمن الغذائي سوءًا لأن تغير المناخ والتوسع السكاني يخلقان مزيدًا من الضغط على سلسلة التوريد، وأي شركة تصل إلى سبق تكنولوجي في مجال  تكنلوجيا الزراعة فسيكون لديها الفرصة لتصبح شركة نظير لشركة تسلا في هذا القطاع المهم، ويمكن أن تقود دول الخليج هذا القطاع الحيوي نظرًا لإمكانياتها الاستثمارية والقرب الجغرافي من البلدان الأخرى التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي، والشركة التي تشابه شركة تسلا في قطاع تكنلوجيا الزراعة  موجودة هنا، فهل سيكون مقرها في دبي؟

 

جوزيف دانا: هو كاتب مقيم في جنوب إفريقيا والشرق الأوسط. كان يكتب عن الشرق الأوسط لأكثر من عقد مع منشورات في القدس ورام الله والقاهرة وإسطنبول وأبو ظبي، وشغل سابقًا منصب رئيس تحرير “إميرج 85”، وهو مشروع إعلامي مقره أبو ظبي يستكشف التغيير في الأسواق الناشئة.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: