أصبحت آثار الغزو الروسي لأوكرانيا مرئية خارج حدود أوكرانيا، ففي تركيا، ألقت الحرب المستمرة بظلالها على الخطط الطموحة للرئيس رجب طيب أردوغان الاقتصادية، والتي شملت كبح جماح أسعار الفائدة المرتفعة، وتعزيز الصادرات، وتحفيز النمو، وخلق فرص عمل.

ولطالما أفادت علاقات تركيا مع روسيا وأوكرانيا الاقتصاد التركي، لكن تلك العلاقات تحولت الآن إلى مسؤوليات.

واعتبرت تركيا ذات يوم كدولة قادرة أن تصبح منتجًا رئيسيًا للمواد الغذائية، لكنها تستورد اليوم معظم ما تأكله، ويؤدي الاعتماد على استيراد الطعام من الخارج إلى إفلاس المستهلكين، خاصة مع ارتفاع معدلات التضخم. وقد سجل معهد الإحصاء التركي (تويك) زيادة بنسبة 16.4 في المئة في مؤشر أسعار المستهلك خلال الشهرين الأولين من عام 2022، في حين تُقدر مجموعة أبحاث التضخم التركية (إينجقروب) التي ترصد حركة الأسعار، منسوب ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية والخدمات بنحو 124 في المئة بين شهر فبراير 2021 وشهر فبراير 2022.

ويُعد ارتفاع أسعار القمح من أبرز التحديات، ففي عام 2019 أصبحت تركيا ثالث أكبر مستورد للقمح في العالم، ذلك وفقًا لمجلس الحبوب التركي، وقد ارتفع سعر الطن من القمح إلى 517 دولارًا أمريكيًا، بعد أن كان 262 دولارًا في شهر مارس الماضي، وهو أعلى مستوى له منذ 14 عامًا. ونتيجة لذلك، ارتفع سعر الخبز بنسبة 120 في المئة عما كان عليه قبل ثلاث سنوات، ولأن تركيا تستورد 65 في المائة من قمحها من روسيا و13 في المائة من أوكرانيا، فإن تلك الأسعار ستزداد ارتفاعاً.

وقد خلقت الحرب في أوكرانيا حالة من الذعر بين الأتراك، حيث أقبلوا على شراء زيت عباد الشمس، الذي تستورده تركيا بكثرة (وتعد تركيا أكبر مستورد لهذه السلعة في العالم) ومرة أخرى، تعتبر روسيا وأوكرانيا هما المصدران الرئيسيان لتلك السلعة، حيث تمثلان 70 في المئة من واردات تركيا. وفي الأسبوع الماضي وحده، قفز السعر إلى 2000 دولار / للطن من 1400 دولار / للطن، وتتزايد المخاوف من أن البلاد ستواجه عجز قريبًا في سلعة زيت الطهي الأساسي، وتحاول أنقرة حل المشكلة من خلال دعم زراعة عباد الشمس في الموسم الحالي لهذا المنتج، لكن لا يزال من غير الواضح قدرة تركيا على تلبية الطلب المحلي.

وأخيرًا، ارتفعت أسعار الوقود بشكل مهول، كما هو الحال في العديد من البلدان، فقد كان متوسط ​​سعر لتر البنزين قبل ستة أشهر 7.76 ليرة أي (حوالي 0.53 دولار) ويتجاوز سعره اليوم ثلاثة أضعاف ذلك، وهناك حوالي 4000 محطة بترول على وشك الإغلاق، لأن العملاء يتحاشون شراء الوقود غالي الثمن، وإذا استمرت الأمور على هذا النحو لفترة أطول، فقد يفقد أكثر من 50000 موظف من العاملين في قطاع النفط والغاز وظائفهم.

وتهيمن مخاوف التضخم على الأتراك وهم يصطفون للحصول على الخبز في جميع أنحاء البلاد، وقد قال أحد المشاركين في برنامج الخبز المدعوم في إسطنبول لقناة الجزيرة مؤخرًا: ” ارتفاع الأسعار شمل كل المواد، من الطعام إلى الخبز، ومن القميص إلى الجوارب التي نرتديها” وتحس بذلك الشعور كافة الشعوب في مختلف أنحاء العالم، ووجد تقرير صادر عن معهد “جيزيكك” للأبحاث في فبراير 2022 أن 71٪ من الأتراك يقولون إن اقتصاد البلاد المترنح هو مصدر قلقهم الأكبر وأن مؤشرات أزمة اقتصادية تلوح في الأفق.

ولسوء الحظ، فإن الاستراتيجية التي تتبعها الحكومة لتجنب المخاطر الاقتصادية هي سياسة التعتيم، فعلى الرغم من خسارة الليرة 44 في المئة من قيمتها مقابل الدولار في عام 2021، إلا إن الحكومة تصر على أن الاقتصاد التركي نما بنسبة 11 في المئة في العام الماضي، ولكن كما اقترح الخبير الاقتصادي “فاتح أوزاتاي”: من شبه المؤكد أن يتم التلاعب بالأرقام الرسمية، ومن المحتمل أن تكون النسبة المئوية الفعلية أقرب إلى أربعة بالمائة. ولكن، حتى لو نما الاقتصاد التركي بقدر الرقمين في العام الماضي، فإن عام 2022 سيكون قصة أخرى. كما يشير “سيمون كسلوفسكي” رئيس جمعية الصناعة والأعمال التركية، حيث قال: “لقد أدت الحرب بين روسيا وأوكرانيا إلى زيادة المخاطر [الاقتصادية] على تركيا”.

وأحد الأسباب هو انفتاح تركيا على الأسواق الروسية والأوكرانية، حيث يوجد حاليًا أكثر من 700 شركة تركية في أوكرانيا باستثمارات تزيد عن 4.5 مليار دولار، وإحدى تلك الشركات هي “ أنادولو إفيس” وهي خامس أكبر مُنتج للبيرة في أوروبا، ولديها 11 منشأة في روسيا وثلاثة في أوكرانيا، وقد تم إغلاق كل تلك المنشآت بصورة مؤقته.

كما تضرر مصنعو الملابس الجاهزة في منطقة “لاليلي” في إسطنبول، حيث تشكل الطلبات من قبل الشركات الروسية والأوكرانية نسبة 40 في المئة من حجم التجارة السنوي للمنطقة الصناعية والبالغ 3 مليارات دولار، وقد توقفت المبيعات منذ بدء الحرب.

وعلى عكس الدول الغربية، فإن لدى تركيا خيارات أقل للضغط على روسيا، فبينما تغلق أوروبا أبوابها أمام شركات الطيران الروسية رداً على تصرفات الكرملين، لا تزال تركيا تعتمد على السياح الروس. ولا يحتاج الروس إلى تأشيرة لدخول تركيا ويمكنهم البقاء في البلاد لمدة 90 يومًا كل ستة أشهر، ويوجد بالفعل ما يقرب من 30 ألف روسي يعيشون في أنطاليا، وتقدر جمعية الأعمال الروسية التركية أن هناك ما يصل إلى 100 ألف حالة زواج جرت بين الروس والأتراك في السنوات الأخيرة.

وتتحول تلك الروابط العائلية إلى تدفقات نقدية جديدة في سوق الإسكان، لا سيما في إسطنبول، حيث أشارت “تويك” في ديسمبر 2021، أن الروس كانوا من بين أكبر مشتري المنازل في تركيا من فئة الأجانب، ويمكن أن تصبح تركيا بالفعل وجهة سياحية روسية شهيرة، وملاذاً آمناً هاماً لأولئك الفارين من الاستبداد الروسي.

ومع استمرار اجتياح آلة الحرب الروسية للأراضي الأوكرانية، أصبحت أوروبا في حالة توتر شديد خوفاً مما قد تحمله الأيام القادمة، أما في تركيا، فقد وصلت آثار الحرب إلى الشارع التركي، وكلما أسرعت أنقرة بالاعتراف بذلك، كلما كان استعداد الأتراك أفضل لمواجهة العاصفة الاقتصادية.

 

تعمل الكسندرا دي كريمر كصحفية في إسطنبول، كما عملت كمراسلة في الشرق الأوسط لصحيفة ميلييت عن الربيع العربي من بيروت، وتتراوح أعمالها ما بين الشؤون الحالية إلى القضايا الثقافية، وقد ظهرت في مونوكل وكارير ماقزين وميسن فرانسسكو وأخبار الفن في إسطنبول.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: