بعد شهر من عبور القوات التركية للحدود السورية ومهاجمتها مدينة عفرين، أضحت هذه المناوشة قاب قوسين أو أدنى من بلوغ نقطة تحول حقيقية. فخلال الأسبوعين الماضيين، وقَع على كِلا الجانبين من الحدود حدثان مفاجئان لم ينتبه لهما الكثيرون، وهما حدثان قد يساعدان العملية التركية على إعادة إنتاج حالة انقرضت في سوريا منذ زمن بعيد: حالة الوضع العادي.
فبعد أسبوع من انطلاق الهجوم، طلب المقاتلون الأكراد في شمال سوريا بطلب تعزيزات لشعورهم بتفوق الجانب التركي. ولم يكن من المرجح الحصول على مساعدة الولايات المتحدة التي اكتفت بِحث تركيا على “ضبط النفس” وقبلت “المخاوف الأمنية المشروعة” التي عبر عنها الجانب التركي. وقد ترك هذا الأمر المقاتلين الأكراد في شمال سوريا أمام خيارين: إما اللجوء للمقاتلين الأكراد الآخرين في شمال شرق سوريا (توجد عفرين في شمال غرب سوريا، إلا أن المنطقتين الخاضعتين للأكراد تفصلهما منطقة واسعة يسيطر عليها المتمردون السوريون)، أو طلب معونة قوات نظام الأسد في الجنوب.
وفي خطوة استثنائية، قام الأكراد بطلب مساعدة دمشق، رغم صراعهم في السابق مع قوات الأسد؛ فقد أصدر المجلس التنفيذي لعفرين بياناً تضمن ما يلي: “ندعو الدولة السورية… لنشر قواتها المسلحة من أجل تأمين حدود منطقة عفرين”. وقد استجاب نظام الأسد في الأسبوعين الماضيين بشكل سري. وفي حين أن النظام السوري حتى هذه اللحظة لم يرسل على ما يبدو أي قوات تابعة له، فإنه سمح للمقاتلين الأكراد من الشمال الشرقي بالمرور إلى عفرين عبر الأراضي الخاضعة له. وقد اعترف متحدث باسم المقاتلين الأكراد أن النظام قد سمح لهم بالعبور، كما أكد وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس للكونغرس أن القوات الكردية كانت في طريقها نحو عفرين.
وفي أوائل شهر فبراير، أعلن قائد مجموعة المعارضة الرئيسية في تركيا أن الوقت قد حان من أجل قيام أنقرة بإحياء العلاقات مع دمشق. وإذا وضعنا الحدثين في سياق واحد، سنجد أن نظام الأسد قد تلقى حبل نجاة غير متوقع.
قد يبدو أن طلب أكراد سوريا حماية النظام أمراً هيناً، إلا أنه بمثابة قنبلة سياسية، كما أنه يعتبر مدخلاً صغيراً بالنسبة للنظام نحو التطبيع، وهو الأمر الذي لا بد أن تستغله دمشق.
فنظام الأسد لا يرغب في قيام أكراد سوريا بإقامة وطن لهم في شمال البلاد، إلا أنه لا يملك القدرة العسكرية لخوض حرب شرسة بعيداً عن دمشق. لذلك فإن النظام السوري قد يقبل السيطرة الكردية المؤقتة على الشمال، فقط لأنه يخشى السيطرة التركية أكثر.
وبالتالي نجد أن الهجوم على عفرين قد فتح مجالاً للتعاون مع الأكراد، ومن المرجح أن النظام سيعتبر هذا الأمر فرصة سانحة: فإذا سمح لعدد محدود من المقاتلين الأكراد بالعبور، سيضع حجر عثرة أمام كل من الأتراك والأكراد في عفرين. فكلما طال حصار الأكراد في المدينة، كلما ارتفع احتمال سعيهم للتعاون مع النظام والسماح لقواته بدخول المنطقة التي لن يخرجوا منها أبداً بعد ذلك.
إلا أن دعوة المعارضة التركية للتطبيع مع دمشق هي الحدث الأكثر أهمية.
فرئيس “حزب الشعب الجمهوري” كمال كيليتشدار أوغلو ليس ساذجاً، حيث إن حزبه متأخر كثيراً عن “حزب العدالة والتنمية” الذي ينتمي له رجب طيب أردوغان، وعدد أعضاء البرلمان من “العدالة والتنمية” يقارب ثلاثة أضعاف الأعضاء المنتمين لـ”حزب الشعب الجمهوري”.
لقد بدأ موعد الانتخابات يلوح في الأفق، حيث يفترض أن تقام الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تركيا السنة المقبلة، إلا أن أحزاب المعارضة التركية تتوقع أن يدعو أردوغان إلى انتخابات مبكرة، ربما خلال فصل الصيف من هذه السنة. ويعلم كيليتشدار أوغلو جيداً أن اللاجئين السوريين يشكلون شوكة سياسية في حلق أنقرة، وبالتالي هم فرصة سياسية بالنسبة له.
وقد استقبلت تركيا أكثر من 3 ملايين لاجئ سوري، وهو عدد يتجاوز أي دولة عربية، ويفوق عدد اللاجئين في الدول الأوروبية مجتمعة. كما سمحت تركيا منذ سنتين للاجئين بالحصول على تراخيص عمل واتخذت عدة خطوات لتوزيع اللاجئين في جميع أنحاء البلاد. وما تزال تركيا بصدد دراسة أثر هذا الأمر، إلا أن دراسة واحدة أصدرتها جامعة تركية استخلصت أن السوريين قد قاموا بإنشاء آلاف المشاريع التجارية، وتشغيل عشرات الآلاف من المواطنين الأتراك، إلا أنهم قد ساهموا ايضاً في رفع مستوى البطالة في بعض المناطق. لكن تفسير هذا الأثر، والمساهمة في الوظائف والضرائب، ليس بنفس سهولة تفسير النفقات للرأي العام، حيث أشار أردوغان السنة الماضية إلى أنها وصلت إلى 30 مليار دولار.
إن ما فعله كيليتشدار أوغلو هو فتح باب الحوار حول موضوع لطالما تحدث بشأنه الأتراك. فقد أثرت كل من أزمة اللاجئين والحرب المجاورة بشكل كبير على المجتمع التركي. ويعي كيليتشدار أوغلو تماماً أنه بفتح هذا النقاش، سيُلحق الضرر بأردوغان (الذي يعارض بقاء للأسد)، وسيفوز بالأصوات، وسيرتدي عباءة الوطني الحقيقي الذي يضع مصالح المواطنين الأتراك فوق العلاقات الدولية.
لذلك فإن كيليتشدار أوغلو يضع أردوغان في موقف عصيب. فالنتيجة التي كان الرئيس التركي يأمل أن تتحقق مع بداية الثورة السورية، وهي رحيل الأسد وحصول أنقرة على نفوذ واسع في دمشق والمنطقة برمتها بعد رعايتها للحكومة جديدة، لم تتجسد على أرض الواقع. إلا أن الرئيس قد أصر على أن موقفه أخلاقي، ورد على كيليتشدار أوغلو باستغراب بسؤاله عما إذا كان يرغب في أن يضع الأتراك أيديهم في يد رجل تسبب في مقتل مليون شخص.
لكن مع اتضاح أن نظام الأسد باقٍ (فحتى الوزير الأول التركي قد صرح أن “النظام السوري واقع لا مفر منه”) وتوسع التواصل بين العاصمتين (حيث اعترفت تركيا بأنها أطلعت دمشق على نواياها ضد عفرين)، سيكون من الصعب الحفاظ على وهم رحيل الأسد، ولن تزداد الأصوات التي تنادي بتصريحات مماثلة لكيليتشدار أوغلو إلا علواً.
وقد كان التأثير التراكمي لهذين الحدثين هو منح بشار الأسد طوق نجاة لم يكن في متناوله لسنوات طويلة. فقد بات للأسد من جديد نفوذ بين صفوف أكراد سوريا دون الحاجة إلى إطلاق رصاصة واحدة، كما أجبر رجال السياسة في أنقرة على قبوله كواقع لا مفر منه. فبفعل استماتته في السلطة، تمكن الأسد من أن يصبح ذا أهمية مرة أخرى.
ومن المرجح أن الأكراد وتركيا سيسعيان إلى الحفاظ على مسافة آمنة بينهم وبين النظام السوري، بحيث يتعاملان معه إذا اقتضت الحاجة ويهاجمونه في خطاباتهم في حالات أخرى. فبالنسبة لهما، سيبدو هذا الأمر كسلام استراتيجي بارد مع دمشق، لكن بالنسبة للأسد، سيكون بمثابة انتصار.
AFP PHOTO / George OURFALIAN