حاول البرلمان اللبناني مرارا وتكرارا منذ ما يقرب من عام انتخاب خلف للرئيس السابق ميشال عون الذي استقال في نهاية شهر أكتوبر من عام 2022 وقوبلت تلك المحاولات بالفشل، ولا يعد الفراغ السياسي في لبنان سبب المشاكل التي لا تعد ولا تحصى، لكن حالة عدم الاستقرار السياسي لم تفعل شيئا يذكر لتخفيف الأزمة المالية الخانقة التي تفاقمت بسبب آثار كوفيد-19 وانفجار مرفأ بيروت عام 2020.
فلماذا كان البرلمان عاجز إلى هذا الحد في وقت الذي كان لبنان في أمس الحاجة للمساعدة، وهل يمكنه تغيير الأمور؟
كان العديد من المراقبين يأملون في أن يؤدي وصول أعضاء جدد مستقلين مباشرة بعد الانتخابات البرلمانية في مايو 2022، إلى إحداث تغييرات إيجابية في المؤسسة، وبفضل الفصائل السياسية الناشئة التي حفزتها حركة 17 أكتوبر الاحتجاجية، استفاد النواب الجدد من المشاعر المناهضة للمؤسسة وسعوا إلى صياغة خطاب سياسي الذي جذب العديد من الناخبين،
وقد أدى فراغ السلطة الرئاسية إلى منع تلك الإصلاحات.
وأصبح عجز البرلمان عن تحسين الوضع في لبنان أمرا لا يطاق تقريبا، ولم يصل البرلمان إلى توافق للمرة الثانية عشر حول رئيس للبلاد ، حيث تقاسم المتنافسان الرئيسيان الأصوات وهم جهاد أزعور، وزير المالية السابق، وسليمان فرنجية، الزعيم الحالي لحركة المردى، ونتج الجمود الأخير بفضل عدم الوصول إلى النصاب القانوني وعدم وجود توافق في الآراء بشأن إجراءات التصويت.
وربما كان من المتوقع أن يلتف نواب “المعارضة” المنتخبون حديثا حول أزعور، وهو خبير اقتصادي ذو خبرة ومدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، حيث يزعم صندوق النقد الدولي أن لديه مخططا لإصلاح المشاكل الاقتصادية في لبنان. ودعا الصندوق البرلمان وحكومة تصريف الأعمال إلى سن إصلاحات هيكلية للبنك المركزي في البلاد وتحسين شفافية الشركات المملوكة للدولة.
لكن في النهاية حصل أزعور الذي “تخلى” مؤقتا عن مسؤولياته في صندوق النقد الدولي لتجنب أي تضارب في المصالح، على 59 صوتا فقط، أي أقل ب 27 صوتا من أغلبية الثلثين البالغة 86 نائبا المطلوبة لفرض جولة ثانية.
وفي الوقت نفسه، كان خصم أزعور، فرنجية، جزءا من المشهد السياسي اللبناني لعقود، ومع ذلك، فإن ترشيحه مثير للجدل أيضا حيث (حصل على 51 صوتا في شهر يونيو). ويحظى ترشيح فرنجية بدعم كبير من الكتل الشيعية لحزب الله وحركة أمل في البرلمان، وهو معروف أيضا بعلاقاته القوية مع النظام السوري، وبالنسبة للكثيرين، فإن ترشيح فرنجية هو تذكير مؤلم بالاحتلال السوري للبنان ومؤسساته، والذي انتهى فقط في عام 2005 بعد اخراج آخر القوات السورية من البلاد.
وزاد نجل فرنجية ” النائب طوني فرنجية” من الطين بله، فقد فاز بمقعد في الانتخابات البرلمانية السابقة، وفي حين أن التكتلات السياسية العائلية شائعة في لبنان، لكن يمكن للمرء أن يتصور بسهولة المصالح المتضاربة التي قد تنشأ في العلاقة بين السلطة التنفيذية والتشريعية إذا نجح سليمان فرنجية في حملته الرئاسية. ويتمثل دور البرلمان في مراقبة الحكومة والتدقيق في أفعالها، ولكن في السياسة الطائفية المعقدة في لبنان، حيث تٌقدم الروابط العائلية على المصلحة العامة، ينذر ثنائي الأب والابن بالكثير من المتاعب.
ومن الواضح والجلي أن الرئيس الجديد، حتى لو كان حظي بإجماع الأغلبية، لن يكون قادرا على حل جميع مشاكل لبنان. حيث ترك عون منصبه وسط استقطاب سياسي عميق وتراجع الدعم الشعبي، وهي تحديات لا تزال قائمة حتى اليوم، ولكن في بلد مثل لبنان، الذي تصفه فريدوم هاوس بأنه “حر جزئيا”، وحيث يشكل الفساد تحديا دائما – فإن الهيئة التشريعية هي الأفضل لخدمة المصالح العامة، ومع ضعف سيادة القانون وضعف معايير المساءلة العامة، كان المشرعون اللبنانيون منذ فترة طويلة من بين القادة الوحيدين الذين يقومون بعمل الشعب.
إن الفراغ الرئاسي الذي طال أمده يصرف الانتباه عن تلك المهمة، واليوم، يتفاقم الفقر ومعظم اللبنانيين غير قادرين على تلبية احتياجاتهم الأساسية، فالخدمات العامة قليلة والتضخم مستمر في الارتفاع، وبالتالي، بدلا من الخلاف حول من سيقود، ينبغي على البرلمان التركيز على إصلاح القطاع المصرفي، وتأمين الوضع المالي للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وإنهاء الانخفاض الحالي في قيمة العملة.
وفي حين أن المساعدات الإنسانية الدولية تساعد في التخفيف من حدة الانهيار المالي في البلاد، فإن هذا ليس حلا طويل المدى، ويجب على البرلمان أن يركز على سياسات أكثر واقعية تتعلق بالاقتصاد السياسي في لبنان بناء على إدارته المؤقتة للبلاد.
يبدو من الوارد استمرارية المأزق الرئاسي في لبنان، ولا يعرف أحد حتى متى، لكن ألم الناس لا ينبغي أن يستمر من دون نهاية، وفي حين تحتاج البلاد إلى رئيس جديد، فإن الحاجة الأكثر إلحاحا هي برلمان قادر على ملء فراغ منصب الرئيس.
ميراي مداح طالبة دكتوراه في جامعة كونستانز في ألمانيا، وباحثة في مجموعة عمل “المشرعون الوطنيون في السياسة الدولية”، وزميلة عالمية غير مقيمة في مركز حقوق الإنسان والدراسات الإنسانية بجامعة براون.