تسببت أزمة فيروس كورونا “كوفيد-19” في انخفاض أسعار الأصول، وباتت الشركات التي تعاني من ضائقة مالية في أمس الحاجة لضخ رأس المال – وكل ذلك يمثل فرصة ثمينة لصناديق الثروة السيادية والمستثمرين الكبار لإبرام الصفقات.
وبعد أن أظهرت البيئة المالية الحالية القرارات الحكيمة، فإنها تشير أيضًا إلى التحولات في ميزان القوة العالمية في العقود الأخيرة. ويتسابق المستثمرون في الخليج والصين وآسيا لإبرام الصفقات، وشراء الأصول باهظة الثمن بأسعار بخسة، وتوسيع نفوذهم المالي خارج حدودهم.
وأحدث الأمثلة على ذلك، هو ما حدث في 15 مايو، عندما اشترى صندوق الاستثمارات العامة السعودي حصصًا في شركات بوينغ وديزني وفيسبوك وبريتش بتروليوم وبنك أوف أمريكا وسيتي جروب وماريوت الدولية وبيركشاير هاثاواي وغيرها من الشركات. وجاءت هذه الخطوة في أعقاب التقارير الواردة بخصوص المحاولات لشراء نادي نيوكاسل يونايتد لكرة القدم. وعلى الرغم من تدخل البعض في السياسات الداخلية لدول الخليج، عندما طالبت شركة بي ان سبورت القطرية بإلغاء الصفقة بسبب مزاعم أن السعودية تدعم شبكات القرصنة، الا انه يبدو أن الصفقة والبالغ قيمتها “300” مليون جنيه إسترليني ستتم عل الأرجح. وفي أبريل، دفع صندوق الاستمارات العامة السعودي، وهو صندوق الثروة السيادية في المملكة العربية السعودية، “430” مليون دولار أمريكي مقابل شراء “8,2%” من حصة شركة كرنفال، وهي أكبر شركة رحلات بحرية في العالم. وفي الشهر نفسه، قال صندوق الاستثمارات العامة السعودي أنه أنفق مليار دولار أمريكي على أربع شركات نفط أوروبية، وهي: إكوينور النرويجية، وتوتال الفرنسية، وإيني الإيطالية ورويال داتش شل البريطانية الهندية.
ويتضح جليًا من خلال تلك الصفقات أن هناك شهية للمضي قدماً في المزيد من عمليات الاستحواذ خلال الأشهر المقبلة لتعظيم الاستفادة من الركود العالمي والذي أوجد سوقًا للمشترين. إن النقد هو الملك في فترات الركود الاقتصادي، وتمتلك صناديق الثروة السيادية أموالاً طائلة.
وفي حديثٍ مع صحيفة الفايننشال تايمز في أبريل، أكد أحد السعوديين المقربين إلى الديوان الملكي السعودي أنهم سيسلكون هذه الإستراتيجية، وقال: “يجب على أي مستثمر أن يترقب الفرص العالمية – والدروس المستفادة من عام 2008، وشراء الأصول بأقل من قيمتها، وهناك الكثير من عمليات الاستحواذ في الأسابيع القليلة المقبلة”.
إن الوضع يشبه بالفعل تداعيات الأزمة المالية في 2008-2009. فبعدها، اشترى الصندوق السيادي القطري حصة في مصرف كريدي سويس في عام 2008، ورفع الصندوق حصته مع ظهور أزمة الائتمان، مما أدى إلى إنقاذ البنك في مقابل الحصول على أسهم بسعر أرخص. كما رفعت قطر حصتها في ذلك العام في بنك باركليز البريطاني المضطرب إلى “12,7%”. وضخت الهيئة العامة للاستثمار الكويتية 3 مليارات دولار أمريكي في سيتي جروب عام 2008، وحققت أرباحًا بأكثر من مليار دولار أمريكي بعد ذلك بعام عندما باعت حصتها في الشركة.
إن الصناديق الخليجية ليست الوحيدة التي تشتهي الشراء في الوقت الحالي. في أبريل، رفع البنك المركزي الصيني، بنك الشعب الصيني، حصته في أكبر مقرض للرهن العقاري في الهند، وهو بنك “اتش دي اف سي” إلى”1%”. وأشارت مصادر إخبارية هندية إلى أن البنك الصناعي والتجاري الصيني وصندوق الثروة السيادية الصيني والمعروف بمؤسسة الاستثمار الصينية يبحثان أيضًا عن أصول بأسعار منخفضة بإجمالي “600” مليون دولار أمريكي.
وتشكل تلك الاستثمارات رفيعة المستوى أيضًا علامات واضحة حول كيفية تتحول القوة الاقتصادية العالمية بعيدًا عن الغرب على مدى العقدين أو الثلاثة عقود الماضية. واشترى المستثمرون من آسيا والشرق الأوسط ما يعتبرونه كنوزاً وطنية. وفي المملكة المتحدة وحدها، تمتلك قطر برج شارد، ومتاجر هارودز، والحصة المالكة في مجموعة Canary Wharf Group العقارية في لندن، بالإضافة إلى حصة كبيرة في شركة الخطوط الجوية البريطانية القابضة وسلسلة سوبر ماركت “سينسبري”. ومن بين أندية كرة القدم في الدوري الإنجليزي الممتاز والبالغ عددها عشرين “20” ناديًا، هناك أكثر من ثلث الأندية مملوكة لمستثمرين أجانب، ومعظمهم من الشرق الأوسط أو آسيا – فهناك ناديًا مملوكًا لمجموعة إماراتية، وآخر لأحد الأمراء السعوديين، وآخر لعائلة تايلاندية تقدر ثروتها بالمليارات، وناديين لأثرياء روس، وناديين لشركات صينية. ومع شراء الصندوق السيادي السعودي لنادي نيوكاسل يونايتد سيصل مجموع الأندية المملوكة للأجانب إلى ثماني أندية.
وبالنسبة للشركات التي تعاني من مشاكل، هناك حاجة ماسة إلى تلك الأنواع من الاستثمارات، لكنها اختارت إثارة ردود الفعل القومية من خلال عناوين الصحف حول “بيع جواهر التاج”.
والهند خير دليل على ما سبق ذكره: وإدراكًا منها أن صائدي الصفقات الصينيين قد يشكلون مشكلة سياسية، أصدرت وزارة التجارة الهندية لوائح جديدة في منتصف أبريل تنص على أنه لا يمكن لأي كيان مقره “دولة ذات حدود برية مع الهند” أو مرتبط بهذه الدولة، تنفيذ أي استثمار إلا بموافقة الحكومة. وكان السبب في إصدار تلك اللوائح هو الحد من “عمليات الاستيلاء الانتهازية على الشركات الهندية بسبب جائحة كورونا “كوفيد-19″ الحالية”.
ويوضح رد فعل الهند على الاستثمار الصيني تلك المعضلة التي تواجهها الدول المتضررة من تلك الاستثمارات. وفي الأوقات العصيبة، باتت الشركات في حاجة ماسة لرأس المال من أي مستثمر، ولكن الحكومات تدرك أن عملية بيع الأصول الوطنية في الداخل لن تنجح.
وبالنسبة للصين، والتي تشهد تدهورًا في علاقتها مع العديد من دول أوروبا وأمريكا الشمالية خلال فترة جائحة كورونا، فقد تشكل تلك المخاوف القومية عائقًا أماما محاولات الصين للحصول على الأصول الرخيصة حول العالم. وبعد الجائحة، قد يكتشف المستثمرون من أجزاء أخرى من آسيا أو الخليج أن القليل من الحكومات الغربية ستتجاهل هذا النوع من الأموال الضخمة والتي قد تعيد تنشيط الاقتصادات.
وهكذا سيستمر التحول التدريجي في القوة الاقتصادية النسبية من الغرب إلى الشرق، وما عجل به هو تلك الأزمة.
كريستيان لو مير، مؤسس شركة Arcipel، وهي شركة للاستشارات الإستراتيجية مقرها لندن. شغلت قبل ذلك منصب المستشار الأول لإحدى الشركات في أبو ظبي، وزميل متميز لدى المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في لندن. c_lemiere