أدى استمرار اشتعال النيران في مصنع بقيق العملاق لتكرير النفط بالمملكة العربية السعودية؛ إلى توجيه الأنظار للتأثير المُباشر لتلك العملية على أسعار النفط، وقد أطاح هذا الهجوم الذي نُفِذَ بالصواريخ أو عن طريق الطائرات المُسيرة بدون طيار بنصف قُدرة المملكة العربية السعودية على مُعالجة النفط بصورة مُؤقتة. بينما وجهت الولايات المتحدة أصابع الاتهام إلى الحلفاء الإيرانيين سواء في اليمن أو العراق فيما يتعلق بهذا الهجوم. ، ولكن الأمر الأكثر أهمية من التأثير قصير المدى لهذا الهجوم، هو أنه قد أماط اللثام عن آفاق الصراع بين المملكة العربية السعودية وإيران.
ويعد هذا الهجوم هو الأحدث في سلسلة هجمات استهدفت منشآت نفطية سعودية وإماراتية، لكن الهجمات السابقة كانت تحمل طابع التحذير المحسوب بعناية والذي نتج عنه: أضرارًا طفيفة أصابت 4 سفن إماراتية خلال الهجوم الذي استهدف ميناء الفُجيرة، وهجمات بطائرات مسيرة بدون طيار في شهر مايو على خط أنابيب النفط السعودي الذي يمتد من الشرق إلى الغرب، وبعض الانفجارات التي أصابت ناقلتي نفط في خليج عمان خلال شهر يونيو، كما استهدفت الصواريخ التي أطلقتها القوات الحوثية في اليمن، منشآت أخرى غير نفطية مثل المطارات، لكن حجم هذا الهجوم الأخير، وتطوره، وهدفه، يُمثلون تصعيدًا هائلاً، وهو أول هجوم يُزلزل أسواق النفط العالمية.
وتُعد بقيق أكبر منشأة لتكرير النفط على مستوى العالم، مع قُدرة على مُعالجة أكثر من 7 ملايين برميل يوميًا – المُستَخرَج من حقل بقيق ذاته، ومن حقل الغوَّار وهو أكبر حقل بترول تقليدي في العالم، وحقلي الشيبة والقطيف (يبلغ إجمالي القدرة الإنتاجية السعودية 12.5 مليون برميل من النفط يوميًا). وتعد بقيق نقطة بداية خط أنابيب النفط الذي ينتهي بمدينة ينبُع على ساحل البحر الأحمر، وهو طريق بديل للمرور عبر الخليج باعتباره طريق تصدير. كما أطاح الهجوم بإنتاج كمية كبيرة من الغاز السعودي، مما سيدفع المملكة إلى استهلاك مزيد من النفط، وربما بزيادة تصل حتى 300 ألف برميل يوميًا، لتلبية الحاجة إلى إنتاج الطاقة الكهربية اللازمة لتشغيل أجهزة تكييف الهواء خلال فصل الصيف.
وبالتزامن مع الهجوم الذي استهدف ثلاثة مراكز لتكرير النفط بحقل “خريص”؛ والتي تنتج مجتمعة 300 ألف برميل يوميًا؛ فقد انخفض إنتاج المملكة بمقدار 5.7 برميل من النفط يوميًا، كما أفادت تقارير عن مؤسسة إنرجي انتليجنس Energy Intelligence بأن شركة أرامكو تأمل في أن تستعيد قريبًا 2.3 برميل من الإنتاج، وأن تُضيف 250 ألف برميل يوميًا من إنتاج الحقول البحرية، والتي تُعد حقول “السفانية” و”زلف” و”منيفة” أكبر ثلاثة حقول بها، حيث تُمثل قدرتها الإنتاجية مجتمعة 3.025 مليون برميل يوميًا. وتستطيع شركة أرامكو أن تمد عملاءها بالنفط لفترة من مخزونها الضخم، الموجود داخل المملكة وفي بعض الأماكن الأُخرى مثل مصر و”روتردام” و”أوكيناوا”.
وفي البداية ازدادت التكهنات المُتعلقة بالآثار المُترتبة على أسعار النفط- وأشار البعض إلى احتمالات تحقيق بعض المكاسب التي تبلغ بضعة دولارات، بزيادة تتراوح بين 10 – 15 دولارًا للبرميل، وتوقّع البعض الآخر أن الأسعار قد ترتفع لتبلغ ثلاثة أضعاف مع انقطاع الخدمة لفترة طويلة، ورغم أنه كان من الأفضل ألا يقع هذا الهجوم على الإطلاق، إلا أنه قد وقع خلال فترة معقولة نسبيًا، حيث تعني صفقة الأوبك (منظمة الدول المصدرة للبترول) أن السعودية، وسائر دول الخليج، وروسيا، لديهم كمية كبيرة من الفائض الاحتياطي. بينما تراجع مُعدل إنتاج الولايات المتحدة للصخر الزيتي، إلا أن التوقعات المُبشرة بارتفاع الأسعار من شأنها أن تعيد إنعاشه. وربما تقوم الوكالة الدولية للطاقة بتنسيق الإفراج عن مخزون الاحتياطي الاستراتيجي الذي تحتفظ به أعضاء تلك المنظمة، بينما بات الوقت مُناسبًا بالنسبة للصين لاستيراد بعض الخام الإيراني المُحتَجَز بمخازنها، بينما كان التجار أكثر قلقًا تجاه مسألة الطلب والركود المُحتمل أكثر من قلقهم بشأن قلة الإمدادات.
ويُعد هذا الوضع أبعد ما يكون عما كان عليه عام 2008، حيث كانت الأسواق آنذاك مُحكمة، وكانت هناك مخاطر جيوسياسية تتعلق بزيادة الأسعار بقيمة 10 دولارات أو أكثر للبرميل الواحد، رغم أن الوضع السياسي في الشرق الأوسط كان أقل خطورة مما هو اليوم.
ويجب أن ينصب القلق حول التأثير على المدى المتوسط أكثر من المدى القصير. وبما أن بقيق تعد محور إنتاج المملكة من النفط؛ فقد كانت تحت حراسة مُشددة ومُحاطة بحلقات مُتعددة من وسائل الدفاع، مع وفرة وحدات الدعم الاحتياطي ومخازن السلاح والذخيرة، فقد نجحت بسهولة في صد هجوم أحد المركبات التابعة لتنظيم القاعدة عام 2006، لكن أثبتت تلك الدفاعات عدم فاعليتها في مواجهة الهجمات الجوية، كما ثارت تساؤلات حول الحكمة وراء تركيز عدد كبير من معامل التكرير في منطقة واحدة، مهما كانت درجة التحصينات التي تتمتع بها تلك المنطقة.
وعلى الرغم من الأهمية البالغة لبقيق ؛ إلا أن هناك العشرات من الأهداف الصناعية الهامة بجميع أنحاء المملكة: مثل منشآت فصل الغاز عن النفط، ومنافذ التصدير، وصهاريج تخزين النفط، ومصافي النفط، ومصانع البتروكيماويات، ومحطات الطاقة، ومحطات تحلية المياه التي تمد المملكة بنصف كمية مياه الشرب. وهناك المئات من المنصات البحرية لاستخراج الغاز والنفط والتي تعد أكثر عُرضة للهجوم، كما أنها عرضة للهجوم عبر الطائرات المسيرة القادرة على الغوص في الماء، خاصة في حالة اندلاع اشتباك صريح مع إيران. أما الإمارات العربية المتحدة، التي تشترك مع الرياض في الحرب ضد الحوثيين، فهي تعاني من نفس نقاط الضعف وربما أكثر، نظرًا لأنها تعتمد على المشروعات الدولية والسياحة والتجارة، وقد أثبت الإنفاق السعودي الضخم على التسلح وقوات الأمن الداخلي، وتعزيز القوات الأمريكية في منطقة الخليج، عدم فاعليته تجاه هجمات الطائرات المسيرة أو الهجمات الصاروخية أو البحرية.
وقد أدين هذا الهجوم الخطير بشدة، ولحُسن الحظ لم يُقتل أحد في تلك الهجمات. لكن الأخلاق أمر، والواقعية السياسية أمر آخر، ومن وجهة النظر الإيرانية فإن هذا الهجوم بمثابة رد انتقامي على العقوبات الأمريكية التي تدعمها السعودية، حيث قضت تلك العقوبات على مُعظم صادرات طهران من النفط – وهي ضربة شديدة الوطأة أكثر من الضربة التي تلقتها المملكة العربية السعودية يوم السبت، وقد استخفَّ الإيرانيون بالمدى الذي قد تبلغه الولايات المُتحدة للتنكيل بحلفائها الذين يرفضون الامتثال ومدى ضآلة ما تستطيع كل من روسيا والصين أن تقدمه إليهم أو تفعله لمُساعدتهم. ورغم ذلك، يصعب القول بأن الإيرانيين أخطأوا في تقديراتهم، ، لأنه وعقب انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي لخُطة العمل الشاملة المشتركة لم يُعرض عليهم أي عرض يستحق القبول به.
وعلى النقيض من ذلك، فمن الواضح أن المحور الأمريكي – السعودي أخطأ في حساباته ، ظنًا منهما أنه يمكنهما التصرف في الوقت والمكان اللذين يختارانهما دون التعرُض لمخاطر رد الفعل، بينما أظهرت طهران مرارًا وتكرارًا قدرتها على إفقاد هذا المحور توازنه، ومن ثم تحررت طهران من ارتباطها بالسوق الدولي، وتخلصت من القيود المفروضة عليها.
وبالطبع أثار التساؤل حول توقيت هذا الهجوم مزيدًا من التكهنات وفي أعقاب إقالة مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون هل تسعى إيران مُجددًا إلى التهدئة؟، أم هل يختار المُتشددون أن يصفقوا الباب في وجه الدبلوماسية؟.
ويبدو أن الرياض تمر بلحظة حرجة، ومن ثمَّ تولى وزير البترول السعودي الجديد الأمير عبد العزيز بن سلمان مهمة تسريع حصول أرامكو على حصتها في القائمة، الأمر الذي أثار الشكوك مرة أخرى، بدأ الوزير السعودي الأسبوع الماضي فقط في تملُق العراق ونيجيريا على وعد بالامتثال لتخفيض الإنتاج الذي اقترحته منظمة الأوبك، والآن امتلكت كل من روسيا وحلفاء الإمارات في منظمة الأوبك والكويت الذريعة المناسبة لاستئناف الضخ الشامل للنفط.
كشفت هذه الأعمال الانتقامية مزيدًا من نقاط الضعف السعودية، وظهرت أكثر عُرضة للتأثر بالمخاطر التي تواجه ارتفاع أسعار النفط والركود الاقتصادي قبيل انطلاق الحملة الانتخابية الأمريكية، مُبرزًا أزمة يرى الكثير أن ترامب هو المتسبب فيها. ورغم وجود عروض جديدة بالتفاوض أو تخفيف العقوبات والتي تبدو بمثابة موقف ضعيف، وحتى لو توقفت الهجمات لفترة، ستظل باقية في الذاكرة، بينما ثبت أن أقوى أسلحة الرياض هو صناعة النفط بها، بالإضافة إلى استخدامها “سيف ديموقليس”، (سلاح التملُق).
يشغل روبن ميلز منصب المدير التنفيذي لشركة القمر للطاقة والبنية التحتية، ومؤلف كتاب “أسطورة أزمة النفط“.