إن كلَّ من تابع ملحمة الانتخابات الإسرائيلية على مدار العام الماضي ليس بوسعه أن يندهش إزاء الأحداث التي وقعت في الأسبوع الماضي. فبعد ثلاث جولات في غرفة الاقتراع، منح الإسرائيليون بيني غانتز، وهو جنرال سابق في الجيش، أغلبيةً ضئيلة لتشكيل ائتلاف حاكم في أوائل مارس/آذار. وكان مثل هذا التحالف ليشكل النهاية السياسية لبنيامين نتنياهو، الذي يخضع لتوجيه اتهام جنائي. ولكن القصة لا تخلو من العراقيل. فالانتخابات الأخيرة أتاحت لحزب القائمة المشتركة الذي يتزعمه الفلسطينيون أقوى استعراض له على الإطلاق، وذلك بفضل إقبال الفلسطينيين على صناديق الاقتراع بأعداد كبيرة.
فلو تمكَّن جانتز من أن يشكل اتحادًا مع الفلسطينيين، فإن التحالف البرلماني الذي يمثِّل كل مواطني إسرائيل كان لينتزع السلطة للمرة الأولى في تاريخ البلاد. وبالنسبة للعدد الضئيل من الليبراليين الإسرائيليين والمراقبين الدوليين، فإن احتمال تشكيل حكومة وحدة حقيقية كان أمرًا مُثيرًا على نحوٍ غير عادي، فقد كتبت أقلامٌ كثيرة على مدار الأسابيع الماضية مُبشِّرةً بحلول عصرٍ جديدٍ من الديمقراطية في البلاد. ولكن ذلك لم يكن ليحدث قط، وكان أولئك الذين تصوروا غير ذلك يضللون أنفسهم.
فلم يكن لسياسي بارز مثل جانتز ليتمكن من تشكيل شراكةً مع الفلسطينيين إلا في أشد الأحلام جموحًا. إذ لا شك أن نتنياهو بذل قصارى جهده لإحباط أيَّة محاولة من جانتز لتشكيل مثل هذا التحالف مع القائمة المشتركة. فقد استخدمت حكومته تفشي فيروس التاجي كذريعة لتكميم المؤسسات الديمقراطية في إسرائيل، في حين عمل حزب الليكود الذي يتزعمه على تصعيد التحريض ضد القائمة المشتركة بل وحتى محاولة منع انتخاب رئيس جديد للبرلمان.
ولكن على الرغم من هذه الضغوط التي يمارسها نتنياهو، فإن كل ما كان على جانتز هو أن يتحلَّى ببعض الشجاعة لصياغة شراكة مع القائمة المشتركة. إذ كان ذلك يتطلب طرد بعض أعضاء حزبه الأزرق والأبيض ممن عارضوا بشدة مثل هذه الشراكة. إلا أن ذلك أمرٌ لا يُذكر مقارنةً بالاحتمال الذي يلوح في الأفق والذي يتمثل في إجراء انتخابات أخرى – ولكن هذه المرة وسط الوباء-.
وكان ذلك ليشكل عملية واضحة فيما عدا شيء واحد: فلم يكن جانتز مهتمًا قط بالعمل مع الفلسطينيين. إن فكرة الشراكة مع الفلسطينيين، باعتباره رجلًا عسكريًا طيلة حياته وينتمي إلى وسط اليمين السياسي، يجعل من تلك الشراكة أمرًا يتعارض بشكلٍ كامل مع توجهه السياسي. إن اهتمام الحزب السائد في إسرائيل بالتوصل إلى اتفاق حقيقي لتقاسم السلطة مع الفلسطينيين ليس أكثر من حلم يحلم به الليبراليون الذين يتشبثون بقصة إسرائيل الخيالية واعتبارها دولة ديمقراطية.
فبدلًا من انتهازه فرصةً تاريخيةً لإعادة تشكيل البلاد جذريًا وتحويلها الى دولة ديمقراطية نزيهة، أبرم جانتز اتفاقاً مع نتنياهو الأسبوع الماضي لتشكيل ائتلاف حاكم. وكان ذلك بمثابة انعكاس مذهل لوعود حزبه في حملته الانتخابية بإزالة رئيس الوزراء الحالي، واستعادة سيادة القانون وإصلاح العجز الديمقراطي في إسرائيل.
وباستخدام وباء الفيروس التاجي كذريعة، وافق جانتز على الدخول في حكومة طوارئ وطنية يرأسها نتنياهو ، فيما يصبح جانتز نائبًا له، وذلك للعام ونصف العام المقبلين. بعد ذلك، سيبدّل كلتاهما الأماكن. ولكن لا يتصور ما الذي سيحدث في هذه المدة، وخاصة بعد أن أثبت نتنياهو أنه غير جدير بالثقة في مواقف مماثلة. والواقع أن الأمور قد بدأت في التغيير بالفعل؛ فبعد الفوز بثلث المقاعد في البرلمان وقلوب العديد من الإسرائيليين، انقسم الحزب الأزرق والأبيض بشأن جانتز على الفور إلى قسمين بعد إعلانه الائتلاف، الأمر الذي يُعد بمثابة تنازلٍ فعليٍ عن المزيد من السيطرة لحزب الليكود الذي يتزعمه نتنياهو وحلفاءُه.
ويؤكد المعلقون الليبراليون أن استسلام جانتز ينبع من أن الأعضاء الرئيسيين في الحزب الأزرق والأبيض كانوا مُعارضين وبشدة للقائمة المشتركة. وقد هدد الخلاف الداخلي بتمزيق الحزب مع احتمال عقد انتخابات أخرى أثناء هذا الوباء، يتمكن فيها نتنياهو من الفوز بسهولة، نظرًا لعدم اكتراثه بالمؤتمر الديمقراطي.
وفي حين توشك ملحمة الانتخابات الإسرائيلية على الانتهاء، فإن هذه العملية تكذِّب صحة الديمقراطية في البلاد. فقد أتقنت إسرائيل فن الخداع فيما يتعلق بممارسة الديمقراطية الشاملة في البلاد. فمن خلال تشدق جانتز بالحاجة إلى “علاج” الديمقراطية في البلاد، فإنه لم يفعل سوى أن انضم إلى قائمة طويلة من الساسة الإسرائيليين ممن يزعمون أنهم يريدون تحويل إسرائيل إلى دولة تحتوي كافة مواطنيها.
بيد أن الواقع القاسي هو أن الفلسطينيين لا يزالون خارج الصورة في ظل سيادة الوضع الراهن.
من الجيد أن نسخط ضد فساد نتنياهو أو نحتفل بصعود القائمة المشتركة، ولكن في نهاية الأمر ستظل السلطة في إسرائيل ثابتة بين أيدي المواطنين اليهود طالما استمر الاحتلال الذي يسيطر على الحياة اليومية فيها.
إن جانتز لم يكن ليزعزع الكيان الكبير الذي ساعد هو بنفسه في خلقه. فهو مجرد موظف في مشروع سياسي أكبر بكثير مصمم لضمان السلطة المطلقة لمجموعةٍ فوق أخرى، وراء واجهة ديمقراطية معقدة. وقد أدَّى جانتز الدور المنوط به بكل براعة.
وعندما تخمد أزمة الفيروس التاجي، فسوف تجد إسرائيل أن ثلاث انتخابات في عام واحد لم تفعل أي شيء على الإطلاق لتغيير شكل السياسة في البلاد.
“جوزيف دانا”، يقيم في دولة جنوب أفريقيا ودول الشرق الأوسط، ويعمل كبير محرري موقع “emerge85″، وهو أحد المختبرات التي تستكشف التغيرات في الأسواق الناشئة وتأثيرها العالمي.
.