أصبحت تركيا محطة توقف ذائعة الصيت للشباب الروسي الذين يأملون في الهروب من حكومتهم منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، ولا يقتصر الأمر على قيام الطبقة الحاكمة بإرساء يخوتهم على سواحل تركيا، ولكن وصل الآمر إلى أن هناك جيش من الشباب الروسي في طريقه إلى الشواطئ التركية.

وقد أصبح مطار إسطنبول الدولي الوجهة الأسهل لفرار الروس من بلدهم، خاصة بعد إلغاء معظم الرحلات الجوية من روسيا إلى أوروبا، وحتى الآن تستقبل تركيا حاملي جوازات السفر الروسية دون قيود، تمامًا كما كان الحال عليه قبل الحرب، ويمكن للروس البقاء في تركيا بدون تأشيرة لمدة تصل إلى 90 يومًا.

ولقد جعلت هذه السياسة المرنة للهجرة من تركيا الملاذ المثالي لأولئك الذين يتحلون بمشاعر مناهضة للحرب ويختلفون مع سياسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويلجأ العديد من المهنيين والكتاب والفنانين والعارضين ذوي المهارات العالية في روسيا إلى ملاذ مؤقت في تركيا للتخطيط للمرحلة القادمة.

قالت “فيكا” وهي فنانة من موسكو وهي من بين الوافدين الجدد الكثيرين إلى تركيا “بالطبع، الأمر يختلف بالنسبة لي مقارنة بالأوكرانيين؛ أشعر بأن لدي بعض الامتيازات. لقد فقدت وطني، أمي تعيش هناك، لكني لا أعرف متى سأراها مرة أخرى.”

وكان قرار فيكا بالمغادرة قائم على التصادم ما بين التاريخ والفن، وهو عرض مستند على حياة الأيقونة النسوية ألكسندرا كولونتاي، وهي أول دبلوماسية في العالم، وقد تم عرضه لأول مرة في روسيا في اليوم الذي بدأت فيه الحرب. وتلك “المشاكل الاجتماعية التي تمردت عليها كولونتاي”، مثل عدم احترام الفئات الضعيفة وعدم الشمولية “لا تزال موجودة في روسيا وهي سبب اندلاع هذه الحرب”.

وقال أحد الوافدين حديثًا، وهو متخصص في تكنولوجيا المعلومات من موسكو ويعيش في مدينة “كاس” كما لم يرغب في نشر اسمه، إن حرب بلاده مع أوكرانيا تضر بالروس العاديين، حيث قال: “لقد عشت في لندن وسان فرانسيسكو وبرشلونة، واخترت العيش في موسكو لأنني أحب تلك المدينة”. لكن مع الحرب وفرض العقوبات، يبدو بلدي وكأنه وطن مختلف، ومع ذلك، أنا من ضمن المحظوظين الذين تمكنوا من المغادرة ” وقال إنه فعل ذلك بسبب احتمال تجنيده للقتال في حرب يُعارضها.

ولا توجد خيارات كثيرة للروس للرد على سياسات حكومتهم، وهو ما يثير الإحباط، حيث قال ديمتري أنطون، وهو أمين مؤسسة سينما تجريبية مقرها موسكو، ويعيش الآن في مدينة “إزمير”: “لقد أصبح الخوف، بشكل عام، قوة مهيمنة” فعندما بدأت الحرب، عبر العديد من الروس عن غضبهم من خلال المشاركة في المسيرات المناهضة للحرب، وقد تم تنظيم الاحتجاجات باستخدام الرموز التعبيرية للتخفي من المراقبة الحكومية على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن بعد اعتقال آلاف المتظاهرين، أصبح التعبير عن التضامن مع أوكرانيا شبه مستحيل، حتى كلمة “حرب” تم منعها من الخطاب العام.

وقال أنطون، ومع ذلك كان بإمكان الروس فعل المزيد لتجنب الصراع، حيث قال: “كانت هناك العديد من الأحداث في الماضي حيث كان بإمكانك تقريبًا التنبؤ بالمستقبل، كان يجب على العاملين في مجال الفنون بذل المزيد من الوقت والجهد في الترويج لخطاب التخلص من الاستعمار في الثقافة الروسية.”

لكن لم يحدث ذلك، وليس من المرجح حدوثه في أي وقت قريب، فقد خلقت الحرب جانبًا أكثر استبدادية في أسلوب حكم بوتين، مما قلص مساحة أصوات المعارضة، كما دفع خطابه المتحيز ضد المرأة والرهاب من مجتمع الميم، فضلاَ عن إحكام قبضته على السلطة، الشباب المبدع الواعي عالميًا إلى مغادرة البلاد. وبعد إعادة انتخاب بوتين في عام 2018، هاجر أكثر من مليوني روسي إلى بلدان أخرى “حيث يمكن أن يعيشوا حياة أكثر حرية مستعينين بمهاراتهم لاستخدامها بشكل أفضل” وحسب تقديرات المجلس الأطلسي، غادر نصف مليون شخص روسيا في عام 2020، وفقًا لوكالة الإحصاء الروسية “روستات”.

وإحدى تلك الوجهات هي تركيا، التي كانت تعاني من هجرة العقول الخاصة بها في السنوات الأخيرة، وفي عام 2019، هاجر أكثر من 330 ألف شخص من تركيا، ويتراوح نسبة 40 في المائة منهم ما بين 21 و34 عامًا، ويخشى الشباب الأتراك بشكل متزايد من عدم وجود مستقبل لهم في بلدهم، ولهذا السبب لن تكون تركيا سوى محطة توقف للروس الذين يسعون إلى وجهة أكثر حرية وديمقراطية.

ولا يعرف زوار تركيا الروس ما هي الخطوة التالية، حيث يتوقع متخصص تكنولوجيا المعلومات في مدينة “كاس” أنه “سيتعين على البعض منا العودة للقيام بالأعمال الورقية أو تحويل الأموال أو بيع الممتلكات، وسيتعين علينا إعادة التجميع والتفكير في الخطوة التالية “

“لكن على المدى الطويل، لا أرى الأشخاص الموهوبين قادرين على العودة إلى روسيا، وأعتقد أن ذلك سيكون مشكلة كبيرة” لموسكو في المستقبل.

وقال أنطون إنه سيكون من الصعب التصالح مع ما يعنيه أن تكون “روسيًا” بعد الصدمة النفسية التي تعرض لها الأوكرانيون و “من الصعب التفكير في هويتنا وأن نطلق على أنفسنا اسم روسي، فهناك عار كبير مرتبط بفكرة أننا لم نقم بدورنا في تغيير مسار النقاش ”

لقد أثبتت حرب بوتين في أوكرانيا أنها مكلفة على الصعيدين الإنساني والسياسي. كما أنها تسببت الآن أيضًا في هروب المواهب الروسية، مما قد يضر بالاقتصاد الروسي لسنوات قادمة، وفي حين أنه من غير المرجح أن يبقى هؤلاء الخبراء في تركيا إلى الأبد، فإن رغبة تركيا في أن تكون محطة عبور لأولئك الفارين من استبداد بوتين هو عامل آخر يساهم في مستقبل روسي مفعم بالغموض.

 

ألكسندرا دي كرامر صحفية مقيمة في إسطنبول عملت مراسلةً لصحيفة ملليت عن الربيع العربي من بيروت، وتتنوع أعمالها ما بين الأحداث الجارية والثقافة، وقد ظهرت أعمالها في مجلات «مونوكل»، و«كورير»، و«ميزون فرانسيز» و«إسطنبول آرت نيوز».

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: