طوال 4 سنوات على الأقل؛ ومنذ أعلن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) عن تأسيس الخلافة بشكل ذاتي، بدأت الحكومات على مستوى العالم تراقب انعكاس تلك العملية على العائدين لكل بلد على حدة، وقد نجح تنظيم داعش في تجنيد عشرات الآلاف من المقاتلين من حوالي 90 دولة، وبمرور السنوات حاول الآلاف من هؤلاء العودة إلى بلادهم: فقد شعر بعضهم بخيبة الأمل بسبب ما مر به، والبعض ظل مؤمنًا بمعتقدات داعش لكنه أراد العودة إلى بلاده، والبعض الثالث – وهو ما تخشاه وكالات الاستخبارات – عاد إلى بلاده من أجل التدبير لهجمات أو تجنيد المزيد في صفوف داعش.
ومعظم الحجج القانونية والمنطقية وحتى الأخلاقية فيما يخُص التعامل مع هؤلاء العائدين – ليس جميعهم مقاتلون، بعضهم كانوا أزواجًا، والبعض كانوا أطفالًا، والبعض الآخر قاموا بخدمة داعش كرجال إدارة أو طهاة – لم يكن لهم ظهور أمام العامة، لكنهم فقط ظهروا؛ كما حدث هذا الأسبوع، حين بدأت القصة تظهر في وسائل الإعلام.
وعلى مدار أيام، كانت هناك صدمة لدى وسائل الإعلام في المملكة المتحدة بسبب قصة “شيماء بيجوم”، الفتاة التي تركت البلاد مع اثنتين من زميلاتها في المدرسة خلال العام 2015، وكانت تبلُغ حينها 15 عامًا، من أجل الانضمام إلى تنظيم داعش، وبعد 4 سنوات، وبعد أن بلغت “بيجوم” 19 عامًا، وبعد أن أصبحت أم وأرملة، استقر بها المطاف في أحد معسكرات اللاجئين السورية، وظهر أنها غير نادمة على تجربتها كفتاة جهادية في صفوف داعش، لكنها تسعى للعودة إلى الوطن.
وقد كانت هناك الكثير من الآراء حول قضية “شيماء بيجوم”، وتنوعت تلك الآراء بين التسامح مع الأفعال الحمقاء التي أتت بها فتاة مراهقة، وبين “تركها للهلاك” في الصحراء السورية.
والآن، وبعد كل تلك المناقشات، فهناك جانبًا واحدًا نادرًا ما تمت مناقشته، وهو يخُص ما تعتقده سوريا والعراق، الدولتين التي تعرضتا للتدمير بسبب إعلان داعش للخلافة من جانب واحد، حول الأوروبيين الذين تم تركهم على أراضي الدولتين، وجاءت الإجابة عبر مواقع التواصل الاجتماعي صريحة وواضحة: “يجب على أوروبا أن تستعيد قمامتها”، أما الدول في أوروبا وغيرها، والتي انضم مواطنيها إلى تنظيم داعش، وهي تعلم بذلك، يجب عليها استعادة هؤلاء المواطنين، حيث أن تركهم للهلاك على أراضي دول أخرى لم يعد خيارًا مطروحًا.
وبشكل عام، هناك وجهتي نظر حول مسألة العائدين.
ووجهة النظر الأولى فحواها أن من قاموا بارتكاب جرائم في العراق وسوريا، يجب أن يكون مصيرهم بيد العراقيين والسوريين، من أجل محاكمتهم وتوقيع العقوبات المناسبة عليهم.
وأما الثانية، فتقول أن المواطنين، خاصة الذين ينتمون لدول الاتحاد الأوروبي، التي تتمتع أنظمتها القضائية بمحاكمات عادلة، فانهم يستحقون تلك المحاكمات العادلة بغضّ النظر عن الجرائم التي قاموا بارتكابها، وبما أن ذلك غير ممكنًا في بعض الأماكن التي يُحتجز فيها هؤلاء المواطنين، فمن ثم فيجب ترحيلهم ومحاكمتهم في بلادهم، ووجهتي النظر تواجههما تعقيدات تتمثّل في أنه دومًا لا توجد أدلة كافية يمكن الحصول عليها من مناطق الحروب من أجل الوصول لقناعات حول تلك الاتهامات، وينطبق هذا على منطقة الشرق الأوسط، كما ينطبق على الدول التي ينتمي إليها هؤلاء العائدين.
وهناك أيضًا وجهة نظر أخرى – يؤمن بها الفرنسيون بشكل كبير – تقول أنه من الأفضل أن يتم احتجاز هؤلاء العائدين في فرنسا، وبحيث تتمكن السلطات من متابعة تحركاتهم.
وبصورة عامة، فإن هؤلاء الذين يشعرون أن “شيماء بيجوم” قامت بخيانة بلدها يفضلون وجهة النظر الأولى، أما هؤلاء الذين يعتقدون أن بلد “شيماء” يجب أن تتحمّل هذا العبء يفضلون وجهة النظر الثانية.
لكن وجهات النظر التي تم تجاهلها تلك التي تخص العراقيين والسوريين.
والعراقيون على وجه الخصوص يشعرون بالغضب – وهُم على حق – بسبب تعرُض أجزاء واسعة من بلادهم للتخريب والتدمير بفعل المقاتلين الأجانب، وهناك المئات من هؤلاء المقاتلين وشركائهم وأزواجهم، قاموا بالمثول أمام القضاء العراقي، حيث صدرت ضدهم أحكام بالسجن أو الإعدام.
وإذا كان الأمر كذلك، فقد بات على العراقيين تحمُل عبئًا مزدوجًا: الأول هو كلفة الدم والتدمير التي قام بها جيش من الأوروبيين والعرب والآسيويين فاقدي العقل، ومن ثم تحمُل التكلفة الشخصية لمحاربة هذا الجيش، وكذا فقد وجب على العراقيين تحمُل تكلفة اعتقال وحبس ومعاملة من ينجون من تلك الدوامة.
وذلك ببساطة لأنه، بعد كل هذا، فإن المشكلات الأمنية التي تخص العائدين، والتي يشعر الأوروبيين والعرب بالقلق بسببها، يشعر بها العراقيين أيضًا.
وعملية وضع هؤلاء العائدين في السجن سيكون لها تكلفة مالية، كما يمكن لها أن تفتح الباب أمام خطف رهائن والتفاوض على إطلاق سراح العائدين مقابل الرهائن، كما يمكن لهؤلاء في تلك الحالة تجنيد المزيد من المقاتلين، أو الهروب وتنفيذ هجمات.
وبسبب تلك الاحتمالات ترفض الدول التي ينتمي إليها هؤلاء عودتهم إلى بلادهم، ولذات السبب يرفض العراقيين والسوريين الإبقاء على هؤلاء الأشخاص.
وقضية مواطني الدول الأخرى لا تعد بمثابة عبء على العراق وسوريا، خاصة القضايا الشبيهة بقضية “شيماء بيجوم”، حيث أنه من المرجح صعوبة الحصول على أدلة كافية من أجل محاكمتها – وهو ما يميل إليه السوريين، الذين ما زالت بلادهم تعاني من الحرب الأهلية والانقسام.
وأحيانًا ما تظهر فرضية تتسم بالعجرفة على لسان الصحفيين، وتقول أنه لو أن الدول الأوروبية على وجه الخصوص لا تريد استضافة مواطنيها مجددًا، يمكن حينها ببساطة استخدام الشرق الأوسط كأرضية لتصدير المقاتلين، لكن فيما يتعلّق بقضايا جنائية أخرى؛ فإن المواطنين الأجانب الذين لم يتم إدانتهم في ارتكاب جرائم خارج الوطن – على سبيل المثال مواطن بريطاني تمت تبرئته بجريمة قتل تم ارتكابها في دولة آسيوية؛ يتم ترحيله إلى بلاده، ويجب تطبيق تلك العملية على العائدين إلى بلادهم.
والواقع أن سقوط دولة الخلافة التي أعلن تنظيم داعش عن تأسيسها نتج عنها صعوبات قانونية وأخلاقية لا يمكن تخيُلها، ومنها قضايا نادرًا ما يتم مواجهتها خلال مرحلة العدالة الانتقالية، والآن وبشكل مفاجئ ظهرت آلاف الأمثلة الواقعية منها، وربما تكون هناك وسائل قانونية أو اتفاقات سياسية جديدة يتم الوصول إليها من أجل توفيق أوضاع عشرات الآلاف من المقاتلين الذين لا تريد بلادهم عودتهم.
والحقيقة أن إعلان بريطانيا نيتها تجريد “شيماء بيجوم” من جنسيتها، سيفشل إذا ما تم تحويل الأمر إلى القضاء، حيث أن القوانين الأوروبية تمنع تجريد المواطنين من جنسيتهم، كما أنه من غير الواضح إذا ما كان في استطاعة “بيجوم” الحصول على جنسية دولة أخرى، وعلى أي حال، فإن تلك الخطوة لن تؤدي إلى حل المشكلة، بل أنها ستقوم بإلقاء العبء على سوريا.
لكن حتى يحدث هذا، من المهم الاعتراف بحقيقة مؤكدة: مؤداها أن المواطنة تشمل تحمُل المسؤوليات، كما أنها تضع التزامات على الدول والمواطنين على السواء، وتلك الدول التي يذهب مواطنيها لتدمير دولة أجنبية يجب عليها أن تتحمّل المسؤولية، وأن تضع حلولًا بعيدة عن لغة الخطاب السياسي.