إن سد النهضة الكبير المطل على حوض النيل الأزرق، والذي شُيد نصفه تقريبًا في الوقت الحالي، هو حجر الزاوية في الخطط الأثيوبية نحو حقبة اقتصادية جديدة. غير أن ما تراه “أديس أبابا” نهضة تنموية، تراه القاهرة خطرًا رئيسًا على شريان حياتها وهو نهر النيل، وتحديًا إقليمًيا للسيادة المصرية.
إن العثور على كبير مديري
مشروع سد النهضة، المهندس/ سمنجو بقلي، مقتولاً بأعيرة نارية داخل سيارته في “أديس أبابا” في شهر يوليو/تموز الماضي، وهي القضية التي لم تُحل بعد، أضفى حالة من السرية والغموض حول مصير هذا المشروع، إلا أن الخلافات الحقيقية حول إنشاءاته كانت واضحة منذ سنوات عدة، ويرمز هذا السد منذ زمن طويل إلى انعدام التعاون الأزلي بين دول غرب أفريقيا، غير أنه وفي ظل التنسيق الدولي والقيادة الجديدة، فإن هذا السد يقدم نموذجًا محتملاً للتعاون الاستراتيجي بينهم.
بدأت أثيوبيا في بناء سد النهضة في العام 2011، وبدأت في ملء الخزان دون مشاورات مسبقة مع مصر أو جيرانها من دول حوض النيل الأزرق. ويمثل هذا التصرف واحدًا من الأمثلة التي تشهد على تصرف دول غرب أفريقيًا بمعزل عن بعضها في يتعلق بالمسائل الإقليمية رغم العوامل الجيوسياسية المشتركة بينهم. ويدل هذا التوجه على افتقار تلك الدول إلى رؤية استراتيجية واضحة وكانت النتيجة وجود هيئات للتنسيق المشترك تتسم بالضعف الشديد على المستوى العسكري والاقتصادي.
ويبدو أن هذا الضعف مبالغ فيه عندما تقتضي الأمور التوصل إلى اتفاق لتسوية المصالح المتعارضة. ومما لا شك فيه أن مصر ستتأثر حتمًا ببناء السد، لأنه سيؤدي إلى تقليص حصة مصر من مياه نهر النيل وهي الحصة التي أقرتها الاتفاقية الدولية في العام 1929 و1959، وتبلغ الآن “55.5” مليار متر مكعب كل عام. وتأتي تلك الصفعة في الوقت الذي تسعى فيه مصر جاهدة نحو الاستقرار الاقتصادي بعد الأزمات السياسية العاصفة الحادة التي أوقدت شرارتها ثورات الربيع العربي في العام 2011 وما بعدها.
وعلى الجانب الآخر، يشهد الاقتصاد الأثيوبي معدل نمو مرتفع منذ العام 2004، حيث بلغ إجمالي الناتج المحلي “73” مليار دولار في العام 2016 وذلك وفقًا للبيانات الصادرة عن صندوق النقد الدولي (رغم أن هذا المعدل يمثل جزءًا ضئيلاً من إجمالي الناتج المحلي المصري البالغ قيمته “335” مليار دولار في العام نفسه). ويُصنف اقتصاد دولة “إثيوبيا” بأنه اقتصاد “سريع النمو” بالرغم من أن معدل النمو الاقتصادي لديها قد أدى أيضًا إلى ارتفاع معدل التضخم. وعلى الصعيد السياسي، شهدت إثيوبيا مؤخرًا تحولاً سياسيًا كبيرًا بعد أن تولى “آبي أحمد” رئاسة وزراء البلاد، وهو أول رئيس وزراء من الجماعة العرقية الأكبر في البلاد وهي عرق “الأورومو”، وأنهى بذلك عقود من إحكام القبضة على السلطة من جانب الائتلاف الحاكم السابق، وأطلق الوعود بإصلاحات سياسية وديمقراطية تشمل جميع الأطراف.
وقد كان لتلك التطورات المحلية أثرها التاريخي على العلاقات الأجنبية، وتجسد ذلك في زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” والرئيس الإريتري “أسياس أفورقي”، واللذان أعلنا عن النهاية الرسمية لعقود من الصراع. وهناك أيضًا العوامل الديناميكية داخل مصر والتي تعيد تشكيل العلاقات الإقليمية ولاسيما الدعم الكبير الذي تقدمه دولتي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة إلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
كثيرًا ما انهارت الجهود السابقة متعددة الأطراف للوصول إلى تسوية بشأن الاتفاق المشترك لنهر النيل، كما أن الشراكة في مبادرة حوض النيل والتي تضم عشر دول وانطلقت في العام 1999، لم تؤدي دورها الهام حتى تاريخه في تسوية الأزمة بين مصر وإثيوبيا فيما يتعلق بسد النهضة. وعلى النقيض، عزز الاتفاق الجانبي في العام 2010 بين خمس أعضاء فقط وهم “إثيوبيا وكينيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا – من حقوق تلك الدول في المطالبة بالمزيد من مياه نهر النيل وبالأخص على حساب حصة مصر.
هذا وقد توصلت المشاورات التي جرت مؤخرًا بين مصر وإثيوبيا والسودان في شهر مايو من هذا العام إلى قرار بإنشاء مجموعة عمل فنية لتقديم المقترحات الخاصة بملء السد وتشغيله وفقًا لمبدأ “الاستخدام العادل”، ويأتي هذا المقترح بالرغم من اختلاف معنى “المبدأ” من دولة لأخرى. فبخصوص “إثيوبيا”، تدل “العدالة” على ملء الخزان إلى أقصى مستوى له في القريب العاجل لتوليد الطاقة الكهرومائية، في حين أن مصر تؤيد ملء السد تدريجيًا على مدار فترة زمنية ممتدة للحد إلى أقصى درجة من الآثار المترتبة على تدفق المياه إلى دلتا نهر النيل وملوحة الطمي. وتتخذ السودان موقفًا واضحًا وذلك في ضوء خلافها المتقلب مع مصر فيما يخص النزاع طويل الأمد على الحدود، بالرغم من سعيها للاستفادة من صادرات الطاقة الناتجة عن السد والتحكم المتوقع في الفيضان.
إن إزالة هذا الجمود قد يعتمد على زيادة رقعة الجهود الدبلوماسية إلى ما هو أبعد من الأطراف الإقليمية التقليدية، والخروج من دوائر التحالفات التقليدية، ولهذا يجب تغيير الأجندة التي وضعتها كل دولة في إطار شراكتها القديمة على أساس التسوية وإلا فالكل خاسر.
إن الانفراجة التي حدثت مؤخرًا في العلاقة بين “أديس أبابا” والعاصمة الإريترية “أسمرة” والتي تمت بواسطة إماراتية، تمثل حدثًا غير مسبوقًا في العلاقات الأفريقية، وتزيد دور دول الخليج في تسوية المشكلات العويصة الموجودة منذ عقود بدون حلول توافقية. وبخصوص دولة الإمارات العربية المتحدة على وجه الخصوص، تأتي تلك الجهود جنبًا إلى جنب مع دورها الأكبر في منطقة القرن الأفريقي.
وحتى الآن، لم يستطع النهج التوافقي متعدد الأطراف تجاوز المخاوف المصرية بشأن التأثيرات المحتملة لسد النهضة في ظل الأولويات التي تضعها “إثيوبيا” لتوليد الطاقة الكهرومائية. ورغم ذلك، وبالنظر إلى النهج الإقليمي، بخلاف النهج ثنائي الأطراف المثير للجدل، نجد أن ثمة خيارات للتوصل إلى أسس مشتركة ممكنة.
AFP PHOTO