حاولت نيودلهي مرة أخرى خلق توازن في موقفها تجاه التوترات المتصاعدة بين روسيا والدول الغربية، ففي 31 يناير، ناقش مجلس الأمن الدولي مسألة زيادة عدد القوات الروسية على الحدود الأوكرانية بناء على طلب من الولايات المتحدة الأمريكية، ومشت الهند على حبل معلق في محاولة منها لإرضاء كل من الغرب – من خلال الدعوة إلى الدبلوماسية المتوافقة مع عملية مينسك، وإرضاء روسيا، من خلال المطالبة بالأخذ بعين الاعتبار “المصالح الأمنية المشروعة لجميع البلدان”. ومع ذلك، فإن حياد الهند المستمر لم يجني الثمار المرجوة، لا سيما فيما يتعلق بالقضية التي تحيرها أكثر من أي قضية أخرى، وهي الصين.
والسبب الواضح من وراء الحياد الهندي تجاه قضية أوكرانيا هو اعتمادها العسكري على روسيا، حيث لا تزال الهند تعتمد بشكل كبير على روسيا في وارداتها من الأسلحة، على الرغم من اقترابها من الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، لكن تبقى صادرات الهند من الأسلحة الروسية هي ما يقرب من 55 في المائة، وتعد روسيا أيضًا موردًا رئيسيًا لبرنامج الهند النووي، ويعمل كلا البلدين على إنتاج أنظمة أسلحة مشتركة، حيث باعت الهند مؤخرًا صواريخ كروز الأسرع من الصوت إلى الفلبين، والتي تم إنتاجها بالاشتراك مع روسيا، وتلك هي أحد الأمثلة القليلة للهند لبيع أنظمة أسلحة مصنعة محليًا إلى دول أخرى، والذي يعد هدف رئيسي لحكومة رئيس الوزراء ناريندرا مودي.
وتدعم موسكو نيودلهي سياسياً بشأن كشمير في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. والأهم من ذلك، هو أن روسيا شريك هام للهند في التعامل مع أفغانستان التي تسيطر عليها طالبان. ومع ذلك، فقد سعت نيودلهي أيضًا إلى تعاون عسكري مع الولايات المتحدة، متماشية مع اهتمام أمريكا في آسيا، وكانت الهند مشاركًا متحمسًا في الحوار الأمني الرباعي الذي تقوده الولايات المتحدة مع اليابان وأستراليا، وهما دولتان تربطهما علاقات متوترة مع الصين.
ولكن عندما تميل نيودلهي إلى أي طرف من الأطراف، فإنها تواجه الكثير من الصعاب، ولا تجني الكثير من ذلك الميل. وقد تكون الهند مشاركًا متحمسًا في التدريبات البحرية مع (الحوار الأمني الرباعي)، لكنها أرسلت أيضًا قواتها للمشاركة في مناورات “زاباد” العسكرية بقيادة روسيا في بيلاروسيا. ولكن بعد فترة وجيزة من توقيع الهند ثلاث “اتفاقيات تأسيسية” مع الولايات المتحدة، والتي منحت جيشي البلدين إمكانية الوصول إلى مرافق كل منهما، وقعت روسيا اتفاقية تعاون أمني مع باكستان، وأجرت روسيا منذ ذلك الحين تدريبات عسكرية مع باكستان، بل أن روسيا باعت طائرات هليكوبتر حربية إلى باكستان في عام 2018 والذي أثار غضب نيودلهي. وفي غضون ذلك، تواصل أمريكا الضغط على نيودلهي للتخلي عن شرائها لأنظمة الدفاع الصاروخي الروسية S-400.
ولكن عندما يتعلق الأمر بالصين لم تتلق نيودلهي سوى القليل من الدعم من موسكو أو واشنطن، وتُعد الصين هي التحدي الأمني الأكثر أهمية بالنسبة للهند. تمامًا مثل روسيا في منطقة دونباس الأوكرانية، حيث تدخلت روسيا لحماية مصالح الناطقين بالروسية ووزعت جوازات سفر روسية لسكان تلك المناطق، وحاولت الصين خلق صراعات على طول حدودها المتنازع عليها مع الهند، وقد ظهرت قرى بأكملها يسكنها مواطنون صينيون بين عشية وضحاها في المناطق المتنازع عليها، حيث تطالب الصين بأجزاء كبيرة من الأراضي التي تديرها الهند، كما تطالب الصين بولاية “أروناتشال براديش” الحدودية الهندية بأكملها، وهي منطقة بحجم النمسا، حيث تزعم الصين أنها جنوب التبت.
ويعد ذلك أخطر تهديد أمني واجهته الهند في العقود الأخيرة، ولا تزال نيودلهي غير مقتنعة بالدعم الأمريكي ودرجة الاعتماد عليه، في حين لم تقدم روسيا سوى بعض العبارات الرنانة حول فضائل الدبلوماسية الثنائية، كما لن تُقدم موسكو على فعل شيء يهدد شراكتها الاستراتيجية مع بكين. وقد اجتمع الرئيس فلاديمير بوتين الأسبوع الماضي مع الرئيس شي جين بينغ، حيث عزز الاثنان التحالف الاستراتيجي لبلديهما، والذي من شأنه إثارة هواجس نيودلهي.
ولكن تصرفات روسيا تجاه أوكرانيا تنذر بتحول في النظام العالمي، حيث يهدد نمو التحالف الصيني الروسي أيضًا المصالح الاستراتيجية للهند. إن موقف الهند من قضية أوكرانيا ليس موقفًا جريئًا في السياسة الخارجية، ولكنه موقف قائم على المراوغة. وتكمن المعضلة بالنسبة لنيودلهي في أن التهديدات الروسية لأوكرانيا، من الناحية الاستراتيجية، تشكل تهديدًا غير مباشر لمصالح نيودلهي، وما يدفع روسيا لتهديد أوكرانيا هو أيضًا ما تسبب في تصاعد العدوان الصيني على الهند على طول حدودهما المتنازع عليها.
وتمامًا مثل موسكو التي لا تريد رؤية تعاون بين الناتو وأوكرانيا، فإن التكتيكات العدوانية التي تتبعها بكين على طول خط السيطرة الفعلية بين الهند والصين (ال أي سي) هي تحذير لنيودلهي بعدم الاقتراب أكثر من اللازم من الولايات المتحدة. و خلال زيارة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إلى الهند في شهر مارس الماضي، أشار إلى (الحوار الأمني الرباعي) على أنه ناتو آسيوي، كما تبنى مسؤولون كبار في بكين نفس الموقف.
وقالت الولايات المتحدة بأن الغزو الروسي لأوكرانيا من شأنه أن يهدد النظام الدولي، حيث لا تقوم الدول بضم أجزاء من بعضها البعض لمجرد الرغبة في ذلك، ولتلك المقولة تاريخ مع دول الشرق الأوسط، بالنظر إلى غزو العراق للكويت في عام 1990، كما يشكل ذلك العمل العسكري هاجس لنيودلهي أيضًا.
والسؤال الهام هو ما إذا كانت الولايات المتحدة ستتدخل لحماية النظام العالمي، فالعالم عالق بين محور روسي صيني يسعى إلى إعادة تشكيل ذلك النظام وبين الولايات المتحدة التي لا تهتم به أو غير قادرة على حمايته.
ومع القليل من الفوائد لمصالحها الخاصة بالأمن القومي، فإن الموازنة الهندية بين كلا الجانبين هي قصة تحذيرية للبلدان الأخرى. إن هدف نيودلهي المتمثل في انتهاج سياسة خارجية متوازنة لتصبح قوة صاعدة في عالم متعدد الأقطاب، يبدو هدفا معقدًا الآن، ومما لا شك فيه أن الدول المحيطة قد لاحظت ذلك.
دانيش كامات هو محلل سياسي يركز على الشرق الأوسط وجنوب آسيا، كما أنه مستشار في التنمية الاجتماعية والاقتصادية للهيئات الحكومية والقطاع الخاص.