“شاكلتون” هو أحد تلك الأسماء الذي يؤجج المشاعر لدى شريحة معينة من البريطانيين، فإلى جانب رفاق الدرب مثل تشرشل ونيلسون وسكوت ولورانس، يوحي هذا الاسم برباط وثيق بالماضي المجيد والذي يثير الحماس في النفوس بطريقة أو بأخرى.

وفي بريطانيا، كانت تلك المشاعر في أوجها، خلال هذا الشهر ضمن نشرات الأخبار التي صرحت بأن سفينة المستكشف القطبي “السير إرنست شاكلتون” المفقودة والمسماة إندورانس “الصمود” قد صمدت بالفعل بعد كل تلك السنوات التي قضتها في قاع البحر، حيث تم اكتشافها وهي في حالة جيدة تقريباً على بعد ميلين تحت سطح بحر “ويديل”، وذلك بعد مضي 106 أعوام من سحقها بالجليد وغرقها في عام 1915.

ما يلفت الانتباه حقاً أن السفينة حافظت على حالتها منذ ذلك الحين كما كانت في يوم غرقها تماما، ما يعزى إلى غياب الطفيليات التي تقتات على الخشب في مياه القطب الجنوبي الباردة.

ومن اللافت للنظر كذلك أن سمعة الرجل، الذي تسببت غطرسته وافتقاره لمهارات القيادة في غرق السفينة، ظلت أيضاً محافظة على رونقها، ما يشير إلى أن الأبطال القوميين لا يتم اختيارهم حسب معايير موضوعية ووفقا لإنجازاتهم الفعلية وإنما تلعب الأساطير الشعبية التي تحاك حولهم وتتماهى مع الوعي الجمعي وصورة البطل الذي لا يشق له غبار دوراً هاماً في عملية الاختيار.

وبالطبع، فغالبًا ما يكون بطل بلد ما هو العدو اللدود لبلد آخر، فقد حظى “تي إي لورانس” بالمجد في بريطانيا لمآثره العسكرية في الحجاز خلال الحرب العالمية الأولى، و يُذكر في شبه الجزيرة العربية، أنه تمكن من إقناع العرب بالوقوف إلى جانب بريطانيا ضد العثمانيين من خلال إيهامهم بأن دولة عربية ناشئة ستكون بانتظارهم مكافأة لهم.

وفي حين يحق للورنس أن يدعي النجاح، على الأقل وفقاً للمعايير السائدة في بلاده، إلا إن شاكلتون، كان مستكشفاً تعوزه الخبرة والكفاءة، ومع ذلك فقد استفاد من ذلك الميل البريطاني الغريب لإعادة تقديم الفشل كشكل من أشكال النجاح (ويسري نفس المبدأ على دنكيرك، والسير جون فرانكلين، والرحلة الاستكشافية للبحث عن الممر الشمالي الغربي والتي باءت بفشل ذريع).

وفي عام 1902، كان شاكلتون أحد رجلين رافقا “روبرت سكوت” في محاولته الأولى للسفر إلى القطب الجنوبي، وهي الرحلة التي انتهت بالفشل. وفي كتابه   في عام 1905 عن الحملة، أنحى سكوت باللائمة على شاكلتون، الذي أظهر عدم أهليته لمتطلبات الرحلة وأعيد مرغماً إلى الوطن.

وقد جمع شاكلتون الأموال لرحلته الاستكشافية وهو في حالة انزعاج، وكانت تلك الرحلة سيئة التنظيم وعانت من مشاكل في المؤن والإمدادات، ولم تدار بكفاءة، كما وضعت في يد شخص عديم الخبرة. على الرغم من التأكد من جلبه ما يكفي من المواد للاحتفال بعيد الميلاد لعام 1908 على الجليد مع بودنغ البرقوق والبراندي والسيجار وغيرها من الأطعمة التي يحبها السادة الإدوارديون، وجد شاكلتون وفريقه الاستكشافي المكون من أربعة رجال أنفسهم في حالة من العوز وشح الطعام واضطروا الى التراجع حينما كانوا على مسافة 150 كيلومتراً فقط من القطب.

ومع ذلك، عند عودته إلى لندن، أستقبل “الحمار” كما وصف نفسه في رسالة إلى زوجته، استقبال الأبطال، وحصل على لقب فارس، وتمَّ تعيينه قائدًا للحرس الملكي الفيكتوري من قبل الملك إدوارد السابع، حتى شعر بالحماس للمحاولة مرة أخرى.

ولكن في ديسمبر 1911، حصل المستكشف النرويجي “روالد أموندسن” على الجائزة القطبية الرئيسية، والذي تغلب على “سكوت” رئيس شاكلتون السابق (والذي توفي أثناء تكرار محاولته بعد بضعة أسابيع) في السباق الى القطب.

وبعد حرمانه من التاج القطبي، وضع شاكلتون خطة طموحة ليصبح أول شخص يمشي عبر القارة القطبية الجنوبية، وكانت الرحلة الاستكشافية الإمبراطورية عبر القطب الجنوبي عام 1914 بمثابة كارثة لا يمكن تلافي آثارها، فقد حوصرت السفينة “اندورنس” بين الكتل الجليدية في يناير 1915 وتم سحقها وغرقت أخيرًا بعد مضي 10 أشهر.

وفي أكتوبر 1915، ترك شاكلتون ورفاقه الـ 26 السفينة المنكوبة وأمضوا الأشهر الستة التالية في المعسكر على قطعة جليد كبيرة، وعندما بدأت تلك القطعة في التآكل والانهيار، استقلوا قوارب النجاة الثلاثة للسفينة وشقوا طريقهم إلى جزيرة الفيل غير المضيافة تمامًا، على بعد حوالي 240 كيلومترًا شمال القارة القطبية الجنوبية.

وعندما لم تظهر أي بادرة أمل هناك، ترك شاكلتون معظم طاقمه على الجزيرة، وانطلق في 24 أبريل مع خمسة من رجاله لطلب المساعدة من محطة لصيد الحيتان في جزيرة جورجيا الجنوبية، على بعد أكثر من 1500 كيلومتر.

واستغرقت الرحلة المخيفة عبر المحيط الجنوبي 16 يوماً، وكان البطل الحقيقي لهذا الإنجاز الرائع في أعالي البحار هو قبطان وملاح السفينة النيوزيلندي فرانك ورسلي، ولكن شاكلتون هو من سيحصل على الثناء والمديح بالطبع من قبل الأجيال القادمة.

ولكن ما تم تجاهله، وما زال كذلك حتى يومنا هذا، هو مصير فريق بحر روس الخاص بشاكلتون، والذي أبحر، كجزء من خطته الكبرى العابرة للقارة القطبية الجنوبية، إلى الجانب البعيد من تلك القارة لإنشاء مستودعات إمداد للعبور الذي لم يحدث البتة، فقد تقطعت بهم السبل هم أيضاً، وبحلول الوقت الذي تم إنقاذهم فيه، فقد ثلاثة رجال منهم أرواحهم.

ومع ذلك، بالعودة إلى إنجلترا، جرى الترحيب بشاكلتون كبطل قومي عائد. ففي بلد يقع الآن في قبضة حرب عالمية ومتعطش للحصول على أي أخبار جيدة، فمن غير المهم فيما اذا كان ما قام به شاكلتون ليس إلا محاولة فاشلة أخرى أضيفت إلى سابقاتها.

والبطل الحقيقي هو الشخص الذي يؤدي عملاً من أجل الآخرين فقط، دون النظر الى مصلحته أو سلامته الشخصية ودون أن يكون مجبراً على القيام به، كرجل الإطفاء الذي يندفع إلى مبنى محترق لإنقاذ طفل، من ناحية أخرى، فإن من يلعب دور “الأبطال” مثل شاكلتون، والذين تم تجهيزهم وتقديمهم للناس بفضل مطالب شعبوية هائجة هم شخصيات خطيرة ومجرد أصفار من السهل جداً استغلالها لصنع أمجاد سياسية زائفة.

وعلى شاكلة شاكلتون وسكوت وكل الباقين الذين يُغذون النزعة القومية المضللة والشعور غير المبرر بالتميز الأجوف الذي أفسد صورة بريطانيا وموقفها غير المرحب بالمهاجرين اليائسين (ما عدى الأوكرانيين لأنهم يشبهوننا) وقوَّض عضوية بريطانيا المفيدة للغاية في الاتحاد الأوروبي، وضحى بها تحت ذريعة بعض المفاهيم الغامضة والمضللة حول السيادة.

في الواقع، لم تعدو مثل هذه البطولات الزائفة أكثر من كونها مجرد عوامل ساهمت في مأساة الانحدار البطيء لبريطانيا نحو الضآلة.

 

جوناثان جورنال صحفي بريطاني، كان يعمل سابقًا مع صحيفة التايمز، وسبق له أن عاش وعمل في الشرق الأوسط وهو مقيم حالياً في المملكة المتحدة.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: