تعتبر طاقة الاندماج مفهومًا قديمًا، لكن صعب على العلماء تحويله إلى واقع، وقد شرع العلماء في البحث عن طرق لتوليد الطاقة من اصطدام الجسيمات الذرية منذ بداية العصر النووي، كما يعد هذا النوع من الطاقة نوعاً نظيفًا وغير محدود، لكن كانت عملية توظيفه باهظة الثمن.

وقد أعلن مختبر “توروز” الأوروبي المشترك (جي أي تي)، وهو برنامج أبحاث معني بالاندماج مقره المملكة المتحدة، في الأسبوع الماضي عن إحراز تقدم كبير في كمية الطاقة الناتجة عن الاندماج النووي، وهذا الإعلان دليل إيجابي على أن الاندماج النووي على وشك أن يصبح شكلاً من أشكال الطاقة النظيفة القابل للتطبيق. وبينما يبحث العالم عن طرق للحد من انبعاثات الكربون الضارة، فإن إمكانات الاندماج النووي مذهلة، وعلى عكس عملية الانشطار النووي المستخدمة حاليًا في مفاعلات الطاقة النووية، فإن الاندماج أكثر أمانًا، وينتج نفايات إشعاعية أقل ويستخدم عناصر أكثر شيوعًا كمصدر للوقود مثل الهيدروجين بدلاً من العناصر النادرة مثل اليورانيوم. والسؤال هو كيف سيتم توفير هذه التكنلوجيا الجديدة للمستهلك؟

وفكرة الاندماج النووي هي بسيطة ومباشرة، فعندما يتم الجمع بين ذرتين خفيفتين معًا لتكوين ذرة واحدة أثقل، فإن عملية الجمع تلك تُطلق شرارة من الطاقة، وكيف استطاع العلماء الجمع بين الذرتين هو ضرب من الخيال، ففي بعض التجارب، تطير الجسيمات مع بعضها البعض بسرعة تفوق سرعة الصوت في مسرعات متخصصة، ويتم استخدام الليزر والمعدن السائل والمغناطيس الفائق أيضًا لتأسيس الرابطة التي تُطلق كميات كبيرة من الطاقة النظيفة.

وكمية الحرارة اللازمة لضرب الذرات بعضها ببعض هي كمية مهولة، وفي معظم الحالات، يحتاج المفاعل إلى التسخين إلى درجة حرارة أعلى من باطن الشمس وهي (حوالي 100 مليون درجة مئوية). وإلى ذلك التاريخ كان من الصعب توليد كميات مستدامة من الطاقة من تلك العملية بسبب كلفتها وكثافتها، وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل إعلان مختبر (جي أي تي) إعلانا هاماً.

وأنتجت التجربة الأخيرة مقدار 59 ميغا جول من الطاقة في خمس ثوان، وهذا ليس بالقدر الكبير، ولكنه أكثر من ضعف ناتج الاختبارات المماثلة التي أجريت في عام 1997. ويؤكد الأداء المتزايد أن تصميم المفاعل الذي تستخدمه (جي أي تي) يمكن أن يؤدي إلى نتائج مهمة إذا كان المفاعل كبيرًا بدرجة كافية، ويتم بناء نسخة أكبر بكثير من نفس المفاعل في فرنسا، والذي من المفترض أن يولد كميات لا نضير لها من الطاقة.

وتسلط تلك التجربة العلمية الضوء على التحدي المتمثل في البنية التحتية لطاقة الاندماج، حيث إن كلفة بناء وتشغيل المفاعلات النووية عالية، واعتمدت مشاريع الاندماج على التمويل الحكومي لإجراء تجارب لا يمكن الجزم بنتائجها، وذلك يتغير بفضل الاتجاهات العامة في مشاريع التكنولوجيا والطاقة المتجددة. إن الاهتمام بمصادر الطاقة المتجددة، والذي أدى إلى مستويات قياسية من إنتاج السيارات الكهربائية في السنوات الأخيرة، يبعث حياة جديدة في الجهود المبذولة لإيجاد حل للاندماج، والشركات الناشئة مثل ” فرست لايت فيوجن” ومقرها أكسفورد هي رمز للاتجاه نحو تمويل رأس المال الاستثماري لمشاريع الاندماج.

وتتبع طاقة الاندماج مسارًا مشابهًا إلى حد كبير لمسار السيارات الكهربائية، فقبل عقدين من الزمن، كانت السيارات الكهربائية بمثابة حلم بعيد المنال، أكثر من كونها قطاع حقيقي لصناعة السيارات، وكانت التكنولوجيا غير فعالة، ناهيك عن ارتفاع التكاليف بالنسبة للمستهلكين العاديين. لكن بفضل بعض الاكتشافات العلمية في مجال التكنولوجية وانخفاض تكاليف بطاريات أيونات الليثيوم، فسيتمكن قطاع السيارات الكهربائية التفوق على صناعة السيارات العادية في السنوات القادمة، ويُلاحظ هذا النمو المتسارع عبر قطاعات التكنولوجيا هذه الأيام، من الأعداد المتزايدة للأشخاص الذين يستخدمون الهواتف الذكية إلى القوة المتزايدة لشرائح الحاسوب.

وتبدو طاقة الاندماج وكأنها على وشك الدخول في مرحلة النمو المتزايد، خاصة مع توفر التمويل المناسب من القطاعين العام والخاص، وفي حين أن أوروبا والولايات المتحدة وروسيا والصين واليابان قد أخذوا زمام المبادرة خلال المرحلة التجريبية، فإن اليوم يشهد توفر فرصة للبلدان الأخرى للانطلاق مبكرًا في هذه التكنولوجيا التحويلية، وتقف الحكومات والشركات التي تستثمر الآن لتكون في طليعة ثورة الطاقة القادمة، ويمكن أن تحدث المرحلة التالية من الابتكار في بلد من الأسواق الناشئة، حيث تبدو دول الخليج من أبرز المرشحين للعب ذلك الدور.

وإذا أرادت اقتصادات الخليج الاحتفاظ بمركزها المتقدم في أسواق الطاقة العالمية، فعليها الاستثمار في طاقة الاندماج، حيث تمتلك العديد من دول الخليج رأس المال للاستثمار في مشاريع الاندماج في بلدانها أو خارج حدودها. علاوة على ذلك، يمكن لدول مثل الإمارات العربية المتحدة جذب أفضل المواهب العلمية اللازمة للوصول إلى الاكتشافات العلمية الجديدة لمشاريعها المحلية. وسيستفيد المشروع المحلي من تحفيز اقتصادات المعرفة المحلية لأنها تثبت وجودها في المنطقة، ويعتقد معظم المحللين أن من سيُميط اللثام أولاً عن سر طاقة الاندماج سيكون في طليعة الثورة التكنولوجية للبشرية، ولا يشترط أن تشتعل تلك الثورة في الغرب.

وبالنظر إلى مكانة الخليج بين الأسواق الناشئة، فإن تصدير تكنولوجيا الاندماج إلى الدول النامية في آسيا وإفريقيا سيغير مسار حياة الملايين بصورة إيجابية.

ومع استمرار النمو السكاني في الأسواق الناشئة وشحة مصادر الطاقة، تعد الطاقة المتجددة الرخيصة أولوية كبرى للحكومات في جميع أنحاء العالم، ومن المرجح أن يكون للكشوفات العلمية الحديثة القادمة في مجال الطاقة النظيفة بعض الارتباط بطاقة الاندماج، ولم يعد السؤال هو ما إذا كانت طاقة الاندماج ستلعب دوراً محورياً في سوق الطاقة، ولكن السؤال هو متى ستلعب ذلك الدور.

 

جوزيف دانا هو كبير المحررين في ” إكسبونانشال فيو” وهي نشرة إخبارية أسبوعية عن التكنولوجيا وتأثيرها على المجتمع، وقد شغل سابقًا منصب رئيس تحرير “إميرج 85″، وهو مركز يستكشف التغييرات في الأسواق الناشئة وتأثيراتها العالمية.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: