في منتصف شهر يوليو، قام رئيس الكنيسة المارونية المسيحية في لبنان بما بدا أنه زيارة روتينية من قبيل المجاملة لرئيس الدولة ميشيل عون، والواقع أن البطريرك بشارة الراعي كان لديه مقصدًا أكبر بكثير يرمي إلى تحقيقه من تلك الزيارة: إعادة السياسة اللبنانية للحياد الإقليمي ومن ثم منع حزب الله من خنق الدولة اللبنانية التي تعاني من الاضطرابات.
ويرى الراعي أن سياسة لبنان السابقة المعتمدة على الحياد نتج عنها النمو الاقتصادي الذي تمتعت به لبنان عقب استقلالها عن فرنسا في العام 1943 وحتى توقيع اتفاقية القاهرة في العام 1969؛ والتي سمحت للفصائل الفلسطينية المسلحة بشن الحرب على إسرائيل انطلاقًا من الأراضي اللبنانية، وأدّى هذا الأمر إلى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت 15 عامًا، كما أدّى في نهاية الأمر إلى المصير البائس الذي يواجه البلاد اليوم، وكلما أٌعيقت محاولات استعادة الحيادية،تنتقل الأمور من سئ إلى أسوأ بالنسبة للبنان.
واقتفاء أثر تلك المسألة يتطلب النظر إلى خلاصة التاريخ اللبناني على مدار 100 عام.
أُنشئت لبنان في عام 1920، وكانت تتألف حينها من جبهتين؛ المسيحيين والمسلمين، وكان المسيحيون يتصورون الدولة على أنها حليف للغرب، بينما كان المسلمين مقتنعون بأن تأسيس لبنان ما هو إلا وسيلة للقوى الاستعمارية العالمية من أجل تمزيق العالم العربي، وحينما انتهت الوصاية الفرنسية عام عام1943، اتحدت الجبهتان المسيحية والإسلامية وأعلنتا لبنان دولة محايدة.
وتمتّعت البلاد بصورة نسبية من الهدوء والاستقرار والازدهار خلال الأعوام اللاحقة وحتى التوقيع على اتفاقية القاهرة، والتي أدّت إلى زوال سيادة لبنان بشكل فعلي، حيث قام المسلحون الفلسطينيون بتصعيد الهجمات التي يقومون بشنها ضد إسرائيل انطلاقًا من الأراضي اللبنانية، وقد عانى لبنان من ردود الفعل المدمرة التي لجأت إليها إسرائيل ردًا على تلك الهجمات.
وقد حاولت الجبهة المسيحية استعادة الحياد عبر تشكيل ميليشيات لكبح جماح الفلسطينيين، وبدلًا من ذلك فإن تلك الحركة أسفرت عن اندلاع حرب أهلية ضارية راح ضحيتها ما يقارب 100 ألف شخص فضلًا عن تشويه 100 ألف آخرين، وحينما انتهت تلك الحرب في عام1990 كان من المتوقّع والمُفترض أن يحل لبنان جميع الميليشيات ومن ثم استعادة الحياد مجددًا.
وبدلًا من ذلك، فإن السوريين الذين دخلوا الحرب في العام 1976 وجدوا الفرصة سانحة لاستغلال حزب الله كسلاح يمكن توجيهه إلى إسرائيل والولايات المتحدة، وأصبح هذا الهدف بلا معنى عقب انسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية في عام2000، وبعدها بأربعة أعوام صدر القرار 1559 من مجلس الأمن مُطالِبًا بحل حزب الله، لكن القرار لم يتم تنفيذه مطلقًا، وحينما رحلت القوات السورية عن لبنان بشكل نهائي في عام 2005 لم يتعرّض حزب الله للمساس، وبات لبنان بيد قوة عدوانية طائفية تملك ميليشيا ضخمة.
وفكرة حزب الله عن الحكم كانت تتمحور حول “دولة المقاومة” على النمط الإيراني، بحيث تكون الدولة المنتخبة والجيش خاضعين لـ”الأمر الإلهي” الصادر عن القائد الأعلى والميليشيا التابعة له، وفي ظل وجود حزب الله تحولت لبنان إلى قاعدة إيرانية على البحر المتوسط، ومن هناك باتت إيران تدير التدخلات التي تقوم بها في الحروب الدائرة في سوريا واليمن، وبات حزب الله أداة في يد إيران من خلال اللعبة الدموية الخاصة بالإرهاب العالمي.
وكما هو متوقّع فإن الحرب المستمرة أدّت إلى تدمير القطاع الخدمي، وهو العمود الفقري للاقتصاد اللبناني، وحينما وجد حزب الله الصعوبة في السيطرة على الشعب الثائر، بدأ في منح المناصب الرفيعة في الدولة للأقلية الموالية له، شريطة أن يستمر هؤلاء المسؤولين في دعم الحروب المستمرة التي يخوضها حزب الله.
وكان الأمر كذلك بالنسبة لبطريرك المارون، الذي تجاوزت هيبته وتأثيره الرئيس اللبناني، حيث طالب عون بإنهاء حالة “دولة المقاومة” التي يمثلها حزب الله وحل الميليشيات التابعة للحزب، واستعادة الأمل في منع لبنان من الانزلاق لتصبح دولة فاشلة.
ولكن زعيم حزب الله حسن نصر الله رفض فكرة الحياد باعتبارها “مضيعة للوقت لأنه لا توجد جهة محايدة” – وهذا المنطق الغير مُعلن عنه يتمحور حول فكرة أنه إذا ما كان الحياد سينفع إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائها، إذن، كيف يمكن أن يُطلق عليه حيادًا؟ ولكن نصر الله لم يخض مواجهة مباشرة مع الراعي، الأمر الذي كان له تداعيات سلبية على البطريرك.
لكن تلك الأمور لن تفت في عضد الراعي، وفي الثالث والعشرين من أغسطس، طالب القوات الحكومية التي تهاجم مخابئ الأسلحة غير القانونية في المناطق السكنية؛ أن تتجنّب تكرار انفجار مرفأ بيروت الذي أسفر عن مقتل أكثر من 200 شخص وتدمير 250 ألف منزل.
ورد حزب الله عبر إحدى الصحف اليومية الموالية له بمقالات تحمل عناوين من قبيل “البطريرك يروج للسلام مع العدو ويدعم الدعاية الإسرائيلية ضد المقاومة”، وعمدت الصحيفة إلى تشبيه مطالبة الراعي بتطهير المناطق السكنية من مخابئ الأسلحة بالاتهامات التي توجهها إسرائيل إلى حزب الله، وخلصت الصحيفة إلى أن الراعي كان جزء من مؤامرة – شاركت فيها أمريكا وأوروبا وإعلام دول الخليج ضد حزب الله.
ومسألة أن يتصدّر القادة الروحانيين المشهد بغرض الوقوف بوجه حزب الله، ومحاولة تصحيح مسار لبنان تعني أن الساسة على مستوى البلاد يشعرون بالخوف، ما يمنعهم من الإقدام على تلك الخطوة، وأية تصرفات تتم بالصدفة وتنم عن الشجاعة السياسية بشكل ثابت انتهت بالساسة إلى التقلُب صعودًا وهبوطًا والدخول في صفقات مع حزب الله، ثم ينقلب الأمر في النهاية ضد طرفي تلك الصفقات، ومن المتوقّع من رجال الدين، مثل الراعي، سد الفراغ الذي تركته النخبة السياسية التي فقدت المصداقية.
وبسبب مكانة رجال الدين، فإن حزب الله وجد أنه من الصعب تشويه صورتهم أمام الرأي العام، وقد حاول الراعي حشد الدعم اللازم لمبادرته من جميع الطوائف عبر التقارب مع مفتي السُنّة، عبد اللطيف الدريان، وهي خطوة يحتمل أن يكون لها مخاطرها، وحينما طالب المفتي الأكبر، حسن خالد، القائد السابق للمجتمع السُنّي بالحياد كلبنان عام 1989 (وهو ما اشترك معه فيه جنرال ماروني منشق يُدعى ميشيل عون) تعرّض المفتي السابق للاغتيال، وهناك دلائل قوية تشير إلى تورط المخابرات السورية في عملية الاغتيال، على الرغم من أنه لم يتم إجراء تحقيق حول تلك الواقعة.
هل يملك حزب الله الجرأة للإقدام على خطوة مماثلة؟،وبما أنه على مدار 30 عامًا، ربح البطريرك بشارة الراعي قلوب وعقول اللبنانيين بسبب مطالبته بالحيادية في لبنان، فهل ينجح الراعي فيما فشل فيه الآخرون؟ نأمل أن ينجح في ذلك من أجل لبنان.
حسين عبد الحسين هو مدير مكتب صحيفة “الراي” الكويتية اليومية في واشنطن، وهو زميل زائر سابقًا في معهد “تشاتام هاوس” لندن.