استخدم وزير المالية التركي نور الدين النبطي نظرية المؤامرة لتبرير المشاكل الاقتصادية التي تتعرض لها البلاد في مقابلة له على الهواء مباشرة مع قناة “سي أن أن تورك” وقال في معرض حديثه، إن الليرة فقدت ما يقرب من 40 في المائة من قيمتها مقابل الدولار، لأن “الاحتياطي الفيدرالي لم يكن مؤسسة مستقلة” بل هيئة “تديرها خمس عائلات كبيرة”.
وتحظى نظرية المؤامرة، رغم سذاجتها بتأييد كبير بين القادة الأتراك، مثل مزاعم العصابة الفيدرالية. وتنشر تلك النظريات معلومات مضللة عن الآخرين، من ألمانيا إلى وكالة المخابرات المركزية إلى منظمة فتح الله غولن، وصارت تلك النظريات دفاعًا سياسيًا أساسيًا، لسبب وجيه، وهو تقبل الأتراك لذلك النوع من الحديث.
ووجدت شركة متروبول لاستطلاعات الرأي ومقرها أنقرة في شهر إبريل عام 2018 عندما سجلت الليرة مستوى قياسي منخفض بلغ 4.5 ليرات للدولار، أن 42٪ من الأتراك يعتقدون أن “تراجع الليرة كان مؤامرة من قبل قوى أجنبية”، وبعد مضي سبعة أشهر، ذكرت شركة كوندا لاستطلاعات الرأي أن 48 في المائة من الأتراك يعتقدون أن “العالم يُدار من قبل خمس عائلات كبيرة”، في حين اعتبر 23 في المائة فقط أن هذا البيان خاطئ، ومع استمرار هذه الاتجاهات، فلا عجب أن يستمر قادة اليوم في لعب تلك الأدوار.
وليس من المفيد أن يكون الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هو نفسه من مروجي ذلك الخطاب الخالي من الحقائق، مثل: إن السبب الرئيسي وراء المشاكل الداخلية لأردوغان هو “لوبي أسعار الفائدة”، الذي قال عنه أردوغان إنه كان يخطط بكل جد و(بمفرده) لإسقاط الاقتصادي التركي، وهي فكرة انتشرت لأول مرة خلال احتجاجات حديقة جيزي في عام 2013.
ثم هناك “ووسايتايكو” أو (العقل المدبر) وهو مصطلح يستخدمه القادة للإشارة إلى مجموعة منتشرة في كل مكان وتعارض ما يزعمون أنه صعود تركيا الحتمي. حتى أن شبكة التلفزيون الموالية للحكومة، “الهبر” أنتجت فيلمًا وثائقيًا بعنوان (العقل المدبر) في عام 2015. واستمر التحقيق فيه لساعتين “كشف من خلاله” أن الـ”عقل” الذي يتكون بالكامل من اليهود تقريبًا ويحاول السيطرة على العالم في مسعا من تلك الجماعة للبحث عن “تابوت العهد” الذي يبلغ من العمر 3500 عام.
ومرة أخرى، ذلك الكلام عبارة عن هراء، ولكن على الرغم من أن وسائل الإعلام الموالية للحكومة مثل ” الخبر” وشبكة “تي أر تي” الحكومية سجلت نتائج سيئة في التصنيف الدولي من حيث الموضوعية، إلا أنها تبقى من ضمن القنوات الإخبارية الوحيدة التي يشاهدها مؤيدو حزب العدالة والتنمية (أي كي بي)، وهو الذي يشكل قاعدة أردوغان. وعلاوة على ذلك، اتهم الرئيس أردوغان المؤسسات الإخبارية المستقلة ومنصات التواصل الاجتماعي بالترويج للأكاذيب وتهديد الديمقراطية، مما يقوض مصادر المعلومات غير السياسية في البلاد.
وبالنظر إلى ذلك الوضع، فليس من المستغرب أن يكون مستوى انعدام الثقة في وسائل الإعلام في أعلى مستوياته على الإطلاق، وفي عام 2018، وجد تقرير رويترز ديجيتال نيوز أن 40٪ من الأتراك لا يثقون بالأخبار، في حين أن 38٪ فقط يصدقون ما ذكره الصحفيون. فضلاً عن ذلك، قال 66 في المائة من المشاركين إنهم يعتمدون على وسائل التواصل الاجتماعي للحصول على أخبارهم. وتستمر هذه الاتجاهات، حيث تحتل تركيا اليوم المرتبة 31 من 35 في مؤشر محو الأمية الإعلامية لمؤسسة المجتمع المفتوح، بسبب “قدرتها الضعيفة في التعامل مع تأثيرات الأخبار المزيفة والمعلومات المضللة بموجب ضعف الأداء في حرية الإعلام والتعليم”.
وكانت أفكار “سياسة تجاوز الحقائق” تنتشر بحرية في أوساط المجتمع التركي قبل فترة طويلة من تتويج ذلك المصطلح ب”كلمة العام” من قبل قواميس أكسفورد في عام 2016. وأشار عالم السياسة وعالم الاجتماع شريف ماردين إلى أن “نظريات المؤامرة هي الفلسفة التاريخية للأتراك”، في حين أن مفهوم “الدولة العميقة” والذي يشير إلى القوى المعادية للديمقراطية داخل المؤسسة السياسية، قد أسر الأتراك على مدى عقود، بما معناه، ليس بالأمر الجديد أن يتلاعب سياسيونا بكلماتهم ويقطعون على أنفسهم وعودًا لا يمكنهم الوفاء بها.
ولكن الحجم الكبير للمعلومات المضللة والمدعوم من الدولة، إلى جانب سيطرة حزب العدالة والتنمية على وسائل الإعلام، دفع نظرية المؤامرة إلى مقدمة الصفوف، إن إتقان أردوغان لطمس الخطوط الفاصلة بين التطلعات السياسية والمعلومات المضللة قد ولّد نوعًا جديدا من السياسة خالية من الحقائق وموجهة فقط للترويج لأجندته.
على سبيل المثال، كثيرًا ما يشير مؤيدو حزب العدالة والتنمية إلى “مدة الانتهاء” الواقعة في عام 2023 لمعاهدة لوزان التي تم التوقيع عليها في عام 1923، حيث يبدأ “العصر الذهبي” لتركيا، وهي مغالطة روج لها أردوغان. حيث قال أردوغان في شهر يوليو “نحن مصممون على الوصول إلى عام 2023 … كدولة أقوى وأكثر استقلالًا وازدهارًا اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا ودبلوماسيًا”. وأضاف: “نستمر في إجهاض المخططات الغادرة ضد وحدة بلادنا وسلامتها، وسلام ورفاهية أمتنا”.
ومع ذلك، لا يوجد تاريخ انتهاء صلاحية لتلك المعاهدة، ولا توجد بنود مخفية سيتم الكشف عنها في يوليو المقبل، كما يمكن لأي شخص لديه اتصال بالإنترنت أن يرى ذلك بنفسه.
وليست كل نظريات المؤامرة خالية من الضرر مثل معاهدة لوزان للسلام، فبعض تلك النظريات لها عواقب وخيمة، على سبيل المثال، هوس أردوغان بتشويه سمعة جورج سوروس، وهو مؤسس مؤسسات المجتمع المفتوح، باعتباره “ذلك اليهودي الذي يمول احتجاجات حديقة جيزي” حيث أدى ذلك التصريح إلى إغلاق مكاتب “أو اس اف” التركية في عام 2018، ولكن ليس قبل اعتقال “هاكان ألتيناي” وهو رئيس “أو اس أف” في تركيا و 13 من زملائه وإدانتهم بتهمة محاولة الإطاحة بالحكومة، وفاعل الخير عثمان كافالا، الذي أطلق عليه أردوغان لقب “بقايا سوروس” ، والذي سُجن لأكثر من أربع سنوات.
إن استخدام نظريات المؤامرة بشكل كبير كتبرير للإخفاقات كان ديدن السياسيين الأتراك منذ فترة طويلة جدًا، ولكن في ظل عدم وجود مصادر موثوقة وتعذر توفر الوصول إلى المعلومات، فليس هناك ما يثبط صعود نظريات المؤامرة بين النخبة السياسية في تركيا. كما حذر الصحفي مصطفى أكيول، “أصبح التفكير التآمري مشكلة وطنية”، حيث أصبح المثقفون والمُطلعون عاجزين عن تغيير مسرى السرد، وفي تركيا اليوم، التي يتم تسييس الحقائق تحت سمائها، فإنه من المحال تبادل الآراء بصورة هادفه.
عمل الكسندرا دي كريمر كصحفية في إسطنبول، كما عملت كمراسلة في الشرق الأوسط لصحيفة ميلييت عن الربيع العربي من بيروت، وتتراوح أعمالها ما بين الشؤون الحالية إلى القضايا الثقافية، وقد ظهرت في مونوكل وكارير ماقزين و ميسن فرانسسكو وأخبار الفن في إسطنبول.