بقلم جلير د أندرسون
تُعَد ألعاب الفيديو أحد أشكال الترفيه الجماهيرية الأكثر رواجًا، حيث يُقدَّر عدد لاعبيها بنحو 3.38 مليارات لاعب في مختلف أنحاء العالم يوجد 17 بالمائة منهم في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA). ومن أكثر ألعاب الفيديو التي يرتقبها الجمهور في عام 2023 لعبة “أساسنز كريد ميراج” التي تسلط الضوء على الحضارة الإسلامية في القرون الوسطى.
بالنظر إلى شعبية ألعاب الفيديو ومدى تأثيرها في معرفة الشعوب بالماضي حسبما تظهر الأبحاث، يحتاج الأكاديميون والمطورون إلى العمل معًا لإنشاء عوالم لعب حقيقية تتحدى الصور الإشكالية الاستعمارية والاستشراقية المعهودة.
ستطرح Ubisoft إصدارها القادم من سلسلة الألعاب “أساسنز كريد” في الخامس من أكتوبر، ويتعقب هذا الإصدار السنوات الأولى من حياة البطل الخيالي باسم بن إسحاق الذي عاش في القرن التاسع في بغداد عاصمة الخلافة العباسية. ستشتمل اللعبة أيضًا على ميزة تعليمية جديدة داخلها تتيح للاعبين التعرف على الخلفية التاريخية لإصدار “ميراج” (السراب).
يُعَد هذا خبرًا مهمًا لكل المهتمين بالفن والتاريخ والتراث الثقافي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ وذلك لأن رؤية المدينة الأسطورية وهي تنبض بالحياة الآن من خلال هذه اللعبة الأيقونية ذات الطابع التاريخي بمنزلة حلم يتجسد على أرض الواقع للكثيرين. ولهذا يضع الجمهور توقعات عالية على هذه اللعبة التي تتخطى آثارها حدود الترفيه.
لا تزال أغلب ألعاب الفيديو ذات الطابع التاريخي تتناول أحداث القرون الوسطى في أوروبا، وتحديدًا شمالَي أوروبا. ويعكس عدم إبراز المعالم والآثار الإسلامية في مثل هذه الألعاب مدى الإصرار على توارث هذه الأفكار، على الرغم من باع طويل من الجهود المبذولة لانتقاد تاريخ الاستعمارية والإمبريالية.
ويمثل هذا الوضع خطرًا بترسيخ اعتقاد إشكالي لدى الجمهور العالمي يوحي بانخفاض أهمية تاريخ منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والمجتمعات الإسلامية وما يعود إليها من آثار ومعالم على المستوى العالمي.
ولكن في المقابل، تطرح لعبة “أساسنز كريد” تجسيدًا مفصلاً لتاريخ دمشق والقدس في القرن الثاني عشر، وغيرها من مدن الشرق الأوسط في العصور الوسطى، من خلال ابتكار سلسلة من أشهر سلاسل الألعاب التاريخية على مستوى مجال ألعاب الفيديو.
تبدو براعة التأثير البصري جلية في هذه الألعاب، لكن المشاهد الإسلامية التاريخية التي تجسدها ألعاب مثل “أساسنز كريد” لا تخطف الأنظار فحسب. إذ تفيد الأبحاث بأن لألعاب الفيديو تأثيرًا مقاربًا لتأثير الأفلام والتلفاز في تشكيل معرفة العامة بالتاريخ، لا سيما العصور والأماكن القديمة غير المألوفة.
سيستمر سوق ألعاب الفيديو في النمو والتطور -حسب تقديرات الخبراء– بفضل ازدياد أعداد اللاعبين في الأسواق الناشئة (تُعَد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ومنطقة أمريكا اللاتينية هما المنطقتان اللتان يُتنبأ لهما أن تشهدا النمو الأكبر هذا العام). وإذا افترضنا دقة هذه التقديرات، فهذا يشير إلى قيام مزيد من مطوري الألعاب بتصميم ألعاب تنطوي على مشاهد وحوارات مستمدة من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتعود إلى تاريخ وتقاليد ثقافية أخرى بعيدة عن التاريخ الأنجلو أوروبي.
هذا ما نأمل فيه، ونأمل أن نرى كذلك مزيدًا من المطورين ينتجون ألعابًا تصور المسلمين والتاريخ الإسلامي القديم بصورة تعلي شأن المصداقية التاريخية على المنظور الاستشراقي السهل وما ينطوي عليه من تضليل، وتستفيد من قدرة هذه المنصات على إتاحة المعارف الأكاديمية الحقيقية خارج الإطار الأكاديمي. وهذا من شأنه أن يساعد على تشكيل فهم العامة للتاريخ العالمي الأكثر شمولاً.
تعلمت من خلال خبرتي -التي تشمل عملي مستشارةً للعبة “أساسنز كريد ميراج”– أن ألعاب الفيديو بإمكانها أن تساعد على فهم البيئة الحضرية والثقافة البصرية والفن والتاريخ. حيث تساعدني عملية اختيار التفاصيل المراد عرضها وتحديد كيفية القيام بذلك والغرض منه وكذلك تساعد طلابي على استيعاب ما تشكله ألعاب الفيديو من آثار -ومشكلات- في التعليم بشكل أفضل.
على الرغم من أن اختيار العمل في مجال ألعاب الفيديو أمر غير معتاد بالنسبة إلى الأساتذة، فإنه عمل بالغ الأهمية. فبصفتنا معلمين، لا يقتصر دورنا على دراسة الصور فحسب، بل نحتاج إلى النظر أيضًا إلى تلك التجربة الغامرة الثلاثية الأبعاد نظرة مطلعة وخبيرة ومدربة. وكذلك ينبغي لعلماء التاريخ المتخصصون في الثقافة البصرية، ولا سيما البيئات الحضرية، الإسهام بخبرتهم في مجال بيئات اللعب التي تزعم تمثيلها أحداث الماضي. وسيساعدنا فهم كيفية إنشاء وتصميم أماكن هذه الألعاب على تعليم جيل جديد من المؤرخين.
بإمكان ألعاب الفيديو تشكيل فهم العامة للتاريخ والتراث الثقافي بطرق تتفوق حتى على الكتب الأكاديمية الأوسع انتشارًا. ولهذا السبب وحده ينبغي للمعلمين الاطلاع على هذه المنصات والتفاعل معها.
إن العلاقة بين القضاء على الاستعمارية ونشر المعارف التاريخية علاقة شائكة، لأنها قضايا متداولة ومستخدمة في صورة ألعاب مثل “أساسنز كريد”. وعلى الرغم من أن تدريس الطلاب في الجامعات ومشاركة الأبحاث في الأوساط العلمية من خلال الكتب الأكاديمية التقليدية يبقى صميم عمل العلماء، فإن بإمكاننا -بل وينبغي لنا- فعل المزيد لمساعدة العامة على الاطلاع على أبحاث الفن والتاريخ الإسلامي والتفاعل معها.
إن شعبية الألعاب ذات الطابع التاريخي تبرز اهتمام الجمهور بالماضي، وتشير إلى أن هذه الألعاب تفتح طريقًا مباشرًا للوصول إلى عقول قاعدة عريضة من الجماهير.
الدكتورة جلير د أندرسون هي محاضرة كبيرة في الفن الإسلامي بجامعة إدنبرة. X: @AndersonGlaire