لا يوجد طرف منتصر في حروب أسعار النفط، والنجاة من تلك الحرب تتطلّب قوة سياسية أكثر من القوة الاقتصادية، ثم قوة اقتصادية أكبر من القوة الصناعية، واليوم فإن صناعة النفط الصخري في الدول المصدرة للبترول (أوبك) وروسيا والولايات المتحدة بدأت في مواجهة اختبار القوة، لكن كيف ستمر تلك الدول من هذا الاختبار.
ومنذ انهيار الاتفاق بين الدول المصدرة للبترول (أوبك) وروسيا، لم تتردد أية دولة منتجة للنفط في زيادة الإنتاج، وروسيا ذاتها أعلنت استعدادها لزيادة الإنتاج بمقدار 500 ألف برميل يوميًا، أما المملكة العربية السعودية فقد أطلقت تصريحات “الصدمة والرعب” من أجل تحقيق نصر سريع، حيث قامت بتخفيض سعر النفط بقيمة تتراوح بين 6 – 8 دولارات للبرميل الواحد، وتعهدت بزيادة الإنتاج ليصل إلى 12.3 مليون برميل يوميًا، وهو رقم أكبر كثيرًا من طاقة الإنتاج السعودية العادية، كما تعهدت بزيادة الإنتاج ليصل إل 13 مليون برميل يوميًا على مدار بضع سنوات.
أما شركة بترول أبو ظبي الوطنية (أدنوك) ستقوم برفع الإنتاج من 3 ملايين إلى 4 ملايين برميل يوميًا وهي الطاقة الاستيعابية الجديدة، والعراق يمكن أن يرفع الإنتاج بقيمة 350 ألف برميل يوميًا إذا ما استمرت تجهيزات تصدير النفط العتيقة الطراز تعمل بذات الكفاءة، ونيجيريا من الممكن أن ترفع الإنتاج بقيمة 100 ألف برميل يوميًا، كما أن الكويت من الممكن أن تضيف إلى الإنتاج 250 ألف برميل يوميًا بعد ظهور إنتاج النفط المشترك مع المملكة العربية السعودية، والذي يتم استخراجه من المنطقة المحايدة بين البلدين. وهناك دول إقليمية أخرى مصدرة للنفط – ومنها ليبيا المقسمة والعراق الذي يعاني وضعًا هشًا وإيران التي باتت عُرضة للانتقاد بالإضافة إلى سلطنة عُمان والجزائر؛ كل تلك الدول عليها أن تتأقلم مع الوضع الجديد بقدر ما تستطيع.
وقد انتهى الأمر بدول (أوبك) إلى دخول الحرب وهي على حق لكن ربما كان ذلك في التوقيت الخطأ. وما بين الصدمة التي أصابت أسعار النفط في أواخر العام 2014 واتفاقية خفض الإنتاج التي أقرّتها دول (أوبك) ودخلت حيز التنفيذ منذ بداية العام 2017 انخفض الإنتاج الأمريكي بقيمة مليون برميل يوميًا، ومن حينها وبينما أدت الاتفاقية إلى رفع الأسعار، أضافت الولايات المتحدة إلى إنتاجها 5.5 مليون برميل يوميًا، وارتفع الإنتاج الروسي بشكل طفيف رغم الوعود بخفض الإنتاج، أما المملكة العربية السعودية فقد هبط إنتاجها بقيمة مليون برميل يوميًا خلال ذات الفترة.
واليوم فإن دول (أوبك) باتت على وشك استعادة حصتها المسلوبة في سوق النفط وبشكل مفاجئ، حيث يغرق النفط الخام لتلك الدول الأسواق التي تعاني هزة بسبب انتشار فيروس كورونا (كوفيد-19).
أما سعر تصدير النفط الخام السعودي فقد هبط من 50 دولارًا قبل قمة (أوبك) ليصل الآن إلى 26 دولارًا للبرميل الواحد، وسيرتفع حجم الصادرات من 7.25 برميل إلى أكثر من 10 ملايين برميل يوميًا: حيث أدّى انخفاض الأسعار للنصف إلى تقليل العائدات بقيمة 28%.
والواقع أن انخفاض تكلفة الإنتاج جعل مؤسسات النفط الحكومية تحقق أرباحًا طائلة، لكن تلك المؤسسات عليها تمويل ميزانيات الحكومات وهو التمويل الذي يعتمد على أسعار صرف العملات، ومعادلة أسعار النفط في الميزانية التي تتراوح من 50 إلى 100 دولارًا للبرميل الواحد، والواقع أن صناديق الثروة السيادية وبيع الديون والأصول من الممكن أن تساعد دول الخليج الأقوى على النجاة لسنوات، لكن الدول الأضعف على مستوى الشرق الأوسط سوف تتعرض للانهيار بشكل سريع.
وعلى افتراض قيام روسيا بخفض الأسعار لأجل أن تظل في المنافسة، فإن العائدات النفطية سوف تنخفض بقيمة 45%، أما شركات النفط الحكومية الروسية والتي تحتاج إلى إعادة ضخ الاستثمارات وتطوير الحقول النفطية ذات التكلفة العالية في القطب الشمالي وشرق سيبيريا، تلك المؤسسات سيشهد إنتاجها انخفاضًا تدريجيًا، لكن منذ العام 2014 تم تحصين الميزانية الروسية ضد انخفاض أسعار النفط والعقوبات الغربية، ويبلُغ سعر التعادل المالي لبرميل النفط في روسيا 42 دولارًا، وسعر الصرف الروسي يتميّز بالمرونة، كما يمكن لموسكو أن تجد فائض في صندوق الثروة السيادية يبلُغ 25 مليار دولار سنويًا، وهذا الأمر سيساعدها على تدعيم ميزانيتها لسنوات.
وقد جاءت المرونة التي أبداها الكرملين على حساب مستوى معيشة المواطن الروسي، وهنا يصبح للقوة السياسية مكان، وطالما أن فلاديمير بوتن يتمتع بدعم الشعب الروسي حتى ولو كان على مضض، فإنه يمكن أن يتغلّب على مشكلة انخفاض أسعار النفط.
وفي الوقت ذاته فإن منتجي النفط الصخري في الولايات المتحدة باتوا يواجهون الفناء، والكثير من الإجراءات الاحتياطية التي سيقومون بها لن تصبح فعالة إذا ما انخفض سعر النفط عن 45 دولارًا للبرميل، وهؤلاء المنتجين معرضون للانهيار ربما قبل حلول العام 2021، وإنتاج النفط الصخري ربما ينخفض بقيمة 250 ألف برميل يوميًا في الشهر إذا لم يتم إعادة ضخ استثمارات في هذا القطاع، والمستثمرون ضاقوا ذرعًا بسبب ضعف العائدات المالية، بينما المكاسب المحققة تم الحصول عليها في أعقاب العام 2014. والمؤسسات الكبرى مثل إكسون موبيل وشيفرون التي راهنت على النفط الصخري ستنجو، لكن لو قامت تلك المؤسسات بشراء أصول الشركات الأصغر المنافِسة التي تعرضت للإفلاس، حينها يمكن لتلك المؤسسات تحمُل الأمر حتى ترتفع الأسعار.
والانسجام الذي أبدته دول (أوبك) خلال المناقشات يبدو مصطنعًا، ويمكن لهذا الأمر أن يكون ذو فعالية على المدى القصير، لكن العنصر الأهم لتطور أسواق النفط على المدى البعيد يكمن في قدرة منظمة (أوبك) على منع أي من أعضائها من البحث عن حصة في السوق عبر رفع مستوى الإنتاج وبحيث يتخطّى باقي أعضاء المنظمة، وإذا ما خرجت دولة عضو عن الخط، مثلما فعلت فنزويلا في تسعينات القرن الماضي، فسيمكن للمملكة العربية السعودية أن تُعاقِبها.
لكن الأمر لم يسير بشكل جيد مع بحر الشمال في ثمانينات القرن الماضي، وربما يكون قد نجح مع النفط الصخري من العام 2014 إلى العام 2016، لكن لم يتم إعطائه الوقت الكافي، ويجب على دول (أوبك) أن تتعلّم الدرس هذه المرة – خاصة ونحن مقبلون على حقبة السيارات الكهربائية وذروة الطلب على النفط (التي يعقبها بدء الاضمحلال)، ومن الضروري أن تحصل دول (أوبك) على حصة في سوق النفط وعدم التخلّي عن هذا المبدأ. ولم يستطع سعر البترول الصمود عند 100 دولار للبرميل خاصة بعد الفترة 2011 – 2014، وكذا فإن السعر الذي كان يتراوح بين 60 و80 دولارًا للبرميل خلال الفترة من 2017 إلى 2019 لم يستطع الصمود، لكن تخفيض السعر ليتراوح بين 40 و 50 دولارًا للبرميل ربما يأتي بنتيجة جيدة بعد أن ينقشع الغبار.
وعلى الرغم من أن الخلاف الروسي – السعودي كان السبب في اندلاع حرب الأسعار تلك، فإن النفط الصخري سيكون أول ضحايا تلك الحرب، وستدرك الولايات المتحدة أن إنتاج كميات ضخمة من النفط بأسعار مرتفعة لن يوصلها لمبدأ “السيطرة على الطاقة” الذي وضعته محورًا لسياستها الخارجية، والاقتصاد الأمريكي بشكل عام لن يتعرّض لهزة عنيفة – وأصحاب السيارات سوف يستفيدون من انخفاض أسعار الوقود، لكن الدول التي تنتج النفط أو المعدات الخاصة بصناعة النفط ستتعرّض للضرر.
ويمكن لدول الشرق الأوسط أن تستغل تلك الأزمة من أجل الاستعداد لتحديات الطاقة في المستقبل، وعلى تلك الدول في المقام الأول أن تنجو من أزمة الطاقة الحالية، وهذا يعني محاربة مسألة أن يكون الاقتصاد تحت رحمة أسعار النفط، ومحاولة بناء اقتصاد جديد، وهو العمل الذي بدأ بشكل صعب خلال الفترة من 2017 – 2019، كما أن على مواطني الشرق الأوسط الاستعداد للتقشف وربما التضرر بسبب عملية إعادة الهيكلة، وفي النهاية فإن القوة السياسية ستكون بمثابة العنصر الحاسم في هذا الصراع.
روبن ميلز هو المدير التنفيذي لشركة قمر للطاقة، وهو مؤلف كتاب خرافة أزمة النفط