مع كشف الحرب في أوكرانيا عن نقاط الضعف السياسية والعسكرية لروسيا، صارت الدول التي كانت من قبل تدور بثبات في فلك الكرملين تبذل جهودًا محمومة لإعادة ترتيب تحالفاتها الجيوسياسية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك العلاقة المتنامية بين كازاخستان وتركيا.
فكازاخستان، التي لطالما كانت حليفًا لروسيا في منظمة معاهدة الأمن الجماعي وعضوًا في اتحاد المنطقة الأوروبية الآسيوية الذي ترأسه موسكو، تغويها الاستثمارات والمعدات الحربية التركية، ورغم أن اقتصاد كازاخستان يرتبط ارتباطًا قويًا بروسيا وسيظل كذلك على الأرجح، على الأقل على المدى القصير، فإن أنقرة تعمل تدريجيًّا عل إقامة علاقات وثيقة مع نور سلطان في محاولة منها لتعزيز مكانتها في المنطقة.
وقد بدت قبضة روسيا مُحكَمة على كازخستان قبل فترة ليست بطويلة، ولكن بعد الاحتجاجات الحاشدة العنيفة التي شلت كازخستان في مطلع يناير، نشرت روسيا وغيرها من دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي نحو 2000 من قواتها في تلك الجمهورية التي كانت في السابق إحدى دول الاتحاد السوفيتي، بحجة العمل على تهدئة الأوضاع في هذه الدولة الغنية بالطاقة. وكانت النتيجة أن الرئيس الكازاخستاني قاسم جومارت توكاييف عزز سلطته في البلاد، بينما لعبت روسيا دور المُنقذ.
لكن مكاسب روسية كانت مؤقتة، واحتلالها لأوكرانيا قوّض العلاقات بين القادة في موسكو ونور سلطان. فلم تؤيد كازاخستان أنشطة الكرملين العسكرية، بل وبدأت في إرسال مساعدات إنسانية إلى أوكرانيا. كما قرر الرئيس توكاييف أيضًا إلغاء موكب يوم النصر الذي يُقام كل عام في العاصمة يوم 9 مايو، مُرسِلًا بذلك رسالة رمزية إلى الكرملين بأن كازخستان تسعى إلى الخروج من كنف روسيا.
الأهم من ذلك هو أن كازخستان رفضت الاعتراف بجمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية، وكذلك ضم الكرملين لشبه جزيرة القرم. ونظرًا لأن موسكو لم تضغط على نور سلطان لتقديم الدعم لها، واصلت كازخستان تطبيق سياستها الخارجية الخاصة «متعددة الاتجاهات» التي وضعها رئيس الدولة السابق نور سلطان نزارباييف.
ويُعَد ترسيخ العلاقات العسكرية مع تركيا أحد عناصر هذا النهج متعدد الاتجاهات، فبعد يومين من احتلال روسيا لأوكرانيا في فبراير، التقى أولزاس كوساينوف، رئيس قسم التعاون الدولي في وزارة الدفاع الكازاخستانية، بـ”فتيح بالا” وهو الملحق العسكري التركي في نور سلطان. وفي مطلع مايو، زار الرئيس توكاييف نظيره التركي رجب طيب أردوغان في أنقرة حيث اتفقت الدولتان على التعاون في إنتاج طائرة أنكا دون طيار الخاصة بتركيا وإجراء عمليات حفر مشتركة بالقرب من مدينة إزمير التركية الساحلية هذا الربيع.
وتخطط كازاخستان كذلك لزيادات كبيرة في ميزانيتها العسكرية، ويشير بعض الخبراء إلى أن غزو روسيا لأوكرانيا هو الدافع رواء ذلك. على سبيل المثال، ثمة مخاوف من أن روسيا قد تطالب بأراضٍ شمال كازخستان حيث تشكِّل الإثنية الروسية أغلبية السكان. ورغم أن أي محاولة لضم أجزاء من كازاخستان تبدو غير واقعية في الوقت الراهن، فما حدث من روسيا في أوكرانيا يدفع كازاخستان إلى مواصلة تعزيز علاقاتها العسكرية مع حلفاء آخرين في المنطقة مثل تركيا كوسيلة للتحوط من نزعة روسيا التوسعية.
وإلى جانب الدفاع، تعزز تركيا وكازاخستان كذلك تعاونهما الاقتصادي، فقد وقع الرئيسان أردوغان وتوكاييف أكثر من اثنتي عشرة اتفاقية خلال اجتماعهما هذا الشهر، والتي تنوّعت مجالاتها ما بين تكنولوجيا المعلومات والثقافة والزراعة والتعليم. ويُقال كذلك أن أنقرة ونور سلطان تطوران علاقاتهما في النقل لتجاوز روسيا من خلال طريق نقل دولي عبر بحر قزوين يمر بكلٍ من الصين وكازاخستان وبحر قزوين وأذربيجان وجورجيا وتركيا وصولًا إلى أوروبا.
علاوة على ذلك، يتجاوز حجم التجارة الإجمالي بين تركيا وكازاخستان حاليًا 5.3 بليون دولار سنويًّا، وقد طلب أردوغان زيادة هذا الحجم إلى 10 بلايين دولار، ورغم أن ذلك ما زال أقل من نصف حجم تجارة كازاخستان مع روسيا البالغ 25.5 بليون دولار، فإن إمكانات التجارة مع تركيا تبدو كبيرة للغاية.
ويعتقد كثيرون أن مصالح تركيا في كازاخستان، وفي آسيا الوسطى بوجه عام، جزء من طموحات أردوغان لتأسيس إمبراطورية عثمانية جديدة، أو عالم تركي. ولكن حتى إذا كان هناك شيء من الحقيقة في ذلك الافتراض، فمن الحقيقي أيضًا أن أهداف روسيا مدفوعة بالمصالح الاقتصادية المرتبطة ارتباطًا قويًّا بالطاقة.
وتُعَد كازاخستان مركزًا محوريًّا لإنتاج النفط، حيث تملك نحو 3 بالمئة من احتياطي النفط المثبت عالميًّا. وهي كذلك أحد أكبر منتجي اليورانيوم في العالم، ومن بين أهم 10 منتجين للفحم والحديد والذهب. لهذا السبب، قد لا يكون أمام أنقرة سوى زيادة نفوذها في كازاخستان لتقليل اعتمادها على موسكو في الطاقة.
ورغم أن روسيا ما زال لديها نفوذ كبير في كازاخستان، نتيجة لقرب أراضيها، والعلاقات الثقافية، والاندماج الاقتصادي لكازاخستان في اتحاد المنطقة الأوروبية الآسيوية، فيمكن لتركيا تقديم شيء لا تستطيع روسيا تقديمه لكازاخستان، ألا وهو صفحة جديدة بيضاء.
إن هزيمة روسيا العسكرية في أوكرانيا يمكن أن تؤثر تأثيرًا كبيرًا على وضع الكرملين في آسيا الوسطى، وفي كازاخستان تحديدًا، فإذا أًلحِقت بروسيا هزيمة نكراء، فستلتمس نور سلطان الحماية والأمن من جهات أخرى. وتركيا، التي تسعى جاهدة لفرض تأثيرها على السياسات الإقليمية، تتأهب لتلك النتيجة.
نيكولا ميكوفيتش هو محلل سياسي في صربيا يركز عمله في الغالب على السياسات الخارجية لروسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا، مع الاهتمام بصورة خاصة بالطاقة و«سياسات خطوط الأنابيب».