لم يعد بالمقدور تجاهل أزمة الصحة النفسية العالمية أكثر من ذلك، ففي أعقاب جائحة كوفيد-19، عانا الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم من مستويات خطيرة من الاكتئاب والقلق، ومن المفارقة أن أنماط حياتنا القائمة على الاتصال الدائم تُلحِق ضررًا جسيمًا بقدرتنا على التواصل بشكل فعلي مع أحبائنا ومع أنفسنا. وقد ذكر المنتدى الاقتصادي العالمي أن 12 مليار يوم عمل تضيع سنويًّا بسبب الاكتئاب والقلق، وهو ما يكلف ما يقرب من تريليون دولار بسبب الإنتاجية المفقودة سنويًا.
ومع تزايد مشكلات الصحة النفسية، تظهر طرق جديدة للعلاج، ويُعاد النظر في الطرق القديمة. ففي الولايات المتحدة وأستراليا وأوروبا، أُلغي تجريم بعض المؤثرات الذهنية مثل السيلوسيبين والكيتامين للتصدي لمشكلات الصحة النفسية، ولكن ماذا لو كان هناك حل بسيط أمام أعيننا لا يتطلب أي أدوية أو عقاقير؟
إنَّ تنفسنا مؤشر على حالتنا النفسية، فهل لاحظت كيف يتغير تنفسك على مدار اليوم؟ فيمكن أن نصاب بضيق في التنفس عندما نشعر بالقلق، كما يمكن لبعض الأنفاس العميقة أن تعمل عمل السحر فيما يتعلق بالتخلص من التوتر والوصول إلى حالة الاسترخاء، وتلك هي إحدى أقدم الممارسات التي يمكن اتباعها في هذا الشأن.
وعلى الصعيد التاريخي، استخدمت الثقافات المختلفة التنفس في الطقوس الروحانية، وللتماسك المجتمعي، وللصحة النفسية. على سبيل المثال، يعكس التنفس صورة (وعي الذات بالأنا) في التقليد الصوفي اليهودي، وتوجد ثلاث كلمات عبرية مختلفة في الكتاب المقدس لدى اليهود تعني أو تشير إلى الروح (نفش، ورواخ، ونيشامه)، وكلها كلمات متنوعة وتعني “التنفس”.
وفي التقاليد الشرقية، اُستخدِم التنفس لتحقيق حالات مختلفة من التأمل واليوغا لوعي الذات بالأنا ، ويرجع تاريخ العديد من هذه الممارسات إلى آلاف السنين، ويستطيع أي شخص حضر فصلًا لليوغا معرفة مدى قوتها.
وابتكر عالم النفس التشيكي الأمريكي الدكتور ستانيسلاف جروف وزوجته كريستينا جروف في أواخر سبعينيات القرن الماضي شكلًا حديثًا من أشكال التنفس القديم المُستخدَم في اليوغا يُسمَى “التنفس الكلي” (Holotropic breahtwork). كان جروف وزوجته يستخدمان المؤثرات الذهنية كأداة للعلاج النفسي حتى تم حظرها في الستينيات. والنظام الذي توصلا إليه بعد ذلك كان نوعًا من التنفس المُكثف الذي حلَّ محل تلك الأدوية لمساعدة العملاء في التحرر من الصدمات من خلال الوصول إلى حالات مختلفة من وعي الذات بالأنا.
لقد كنت أمارس شكلًا من أشكال التنفس الكلي يُسمَى التنفس الواعي المتصل خلال بعض الأشهر الماضية للتخلص من التوتر والتواصل مع نفسي على مستوى أعمق. وتُعقَد جلسات التنفس عادةً في مجموعة حيث نبدأ بالوقوف على أقدامنا مع وجود عصابة على أعيننا، وتُعَد الموسيقى جزءًا محوريًّا من الجلسة، وغالبًا ما تكون صاخبة، والتمرين واضح ومباشر؛ نتنفس بشكل دائري دون توقف بين الشهيق والزفير، يبدأ التنفس من المعدة، ويملأ الحجاب الحاجز، ثم يهدأ الزفير مثل سقوط مياه الشلال، وبعد بضع دقائق من التنفس، نستلقي، ثم يبدأ العمل الحقيقي.
يشعر العقل المنطقي في البداية بعدم الارتياح تجاه أسلوب التنفس الجديد والمختلف، ولكنك في النهاية تبدأ في التسليم، ويبدأ التنفس في السيطرة عليك، ومن الشائع أن يُصاب المستجدون في هذا التمرين بحالة تُسمَى التكزز، وهي حالة تنقبض فيها عضلات اليدين والذراعين وتشعر كما لو أن لديك مخالب متجمدة في نهاية ذراعيك، ولكن إذا واصلت التنفس، فسيخف ذلك الشعور.
وتُعَد تهدئة العقل المنطقي من أهم الجوانب العلاجية في التمرين؛ إذ يبحث العقل المنطقي في استماتة عن شيء يتمسك به، ولكن إذا استطعت تهدئته، فإن الجسم سيتولى زمام الأمور ويخلصك من التوتر والصدمات. فغالبًا ما تنتهي جلساتي بتحرري من مشاعري الجسدية على نحو مذهل يجعلني أرغب في عناق نفسي.
وليست كل أشكال التنفس في مستوى قوة وشدة عملية التنفس الكلي التي لا يُنصَح بها للأشخاص الذين يعانون من ظروف صحية معينة. وعلى مدار العقد الماضي مثلًا، روَّج خبير الصحة الهولندي ويم هوف لشكل خاص من اشكال التنفس، واستخدم هوف تقنيات للتنفس والغطس في الماء البارد للقيام ببعض الأعمال المثيرة والمذهلة حقًا، مثل محاولة تسلق جبل إيفرست مرتديًا سروال سباحة فقط.
ويُقدِّم هوف أسلوب التنفس الذي يستخدمه في مقطع فيديو مدته 10 دقائق، والذي شُوهِد ملايين المرات بلغات مختلفة على موقع يوتيوب، والتمرين الذي يتبعه أيضًا واضح ومباشر؛ فتأخذ من 30 إلى 40 نفسًا قويًا، وبعد النفس الأخير، تزفر بالكامل ثم تحبس أنفاسك، وهي اللحظة التي يحدث فيها السحر.
فنظرًا لأنك أدخلت الكثير من الأكسجين إلى جسمك خلال الجزء الأول من التمرين، يمكنك حبس أنفاسك لفترة أطول من المعتاد، وتبدأ في الشعور بالوخز والخفة تقريبًا، كما يمكنك أن تشعر بنبضات قلبك وتحرك الدم في جميع أنحاء جسمك، وعندما تحتاج إلى الهواء، تأخذ نفسًا عميقًا وتحبسه لمدة 10 ثوانٍ. وهذه أول خطوة، وأثناء حبس أنفاسك، من الشائع أن تسترجع ذكرياتك القديمة بتفاصيل دقيقة.
يقول هوف أن النفس باب يُدخلِنا إلى ممرات تأخذنا إلى أعماق أنفسنا، وفي العادة، أرفض هذا الخطاب باعتباره كلامًا فارغًا من مخلفات (حركة العصر الجديد)، لكنني جربت قوة التنفس، ومن ثم فأنا مضطر لإعادة تقييم موقفي. عندما تسترخي في التمرين، يمكن أن يتسع تنفسك ليصبح بحجم المحيط، ويمكنك السباحة في أعماق عقلك الباطن. إذا كان لديك 10 دقائق، جرب ذلك بنفسك وانظر ماذا سيحدث. فقد تبدأ ثورة الصحة النفسية بشيء بسيط تمامًا مثل التنفس.
جوزيف دانا هو كبير المحررين السابقين في إكسبونانشال فيو، وهي جريدة إخبارية أسبوعية حول التكنولوجيا وتأثيرها على المجتمع. كما شغل منصب رئيس تحرير موقع إميرج 85، وهو مركز يستكشف التغيير في الأسواق الناشئة وتأثيره العالمي.
تويتر: @ibnezra