خلال الأيام التي سبقت غارات التحالف على سوريا، بدأ دونالد ترامب في الخوض فيما أسماه ناطق باسم الكرملين بـ”دبلوماسية تويتر”، محذراً من أن الرد العسكري الأمريكي بات قريباً. الرد الروسي، وإن كان مقتضباً، فإنه ظل مخيفاً نظراً للقدرات العسكرية للطرفين.

لقد قال رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية، فاليري غيراسيموف، إن “أي تهديد لحياة جنودنا” سيدفع روسيا إلى الرد “على الصواريخ ومنصات إطلاقها”، وهو تهديد حقيقي نظراً لأن الهجوم على سفينة حربية أمريكية سيجر البلدين إلى ما لا تحمد عقباه. ولم يكن من المتوقع ألا يجيب ترامب على مثل هذا الهجوم، خاصة بعد تغريدته التالية: “إذا كانت روسيا تتعهد بإسقاط أي صاروخ يتم إطلاقه على سوريا، فلتستعد لأن الصواريخ قادمة لا محالة”.

هذا الأمر دفع بعض المحللين إلى وصف هذه اللحظة بأنها الأخطر في تاريخ البلدين منذ أزمة الصواريخ الكوبية. لكن بعد أن أصابت الصواريخ أهدافها، وانقشع الدخان، وتواصلت الحرب، تبين أن الأمر كان مجرد ألاعيب سياسية من الطرفين. فالغارات لم تحقق أي شيء، وروسيا لم تحرك ساكناً.

لكن بالنسبة لفلاديمير بوتين، فإن كثرة القيل والقال تعد في حد ذاتها نصراً مهماً. فانطلاقاً من وعيه بضياع عقد من الزمن على روسيا عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، كان أحد المحاور الرئيسية في فتراته الرئاسية المتعددة يتمثل في استعادة أمجاد روسيا ومكانتها في العالم. لذلك فإن تكهن وسائل الإعلام الغربية بشأن ما إذا كانت روسيا ستقوم بإغراق سفينة حربية أمريكية (وليس إذا كانت قادرة على ذلك) هو بمثابة انتصار كبير.

إن أكبر نجاحات روسيا المحققة عبر تدخلها في سوريا هو عودتها إلى واجهة السياسة الدولية. لذلك فإن بوتين لن يخاطر بالدخول في حرب عالمية كبيرة. من جهة، كان غياب الرد الروسي هو ما تعهدت به موسكو تماماً: فبما أن حياة الجنود الروس لم تتعرض لأي تهديد، لم يكن هناك من داع للرد. كما أن الطرفين قد دخلا في محادثات متواصلة طيلة مدة الهجمات، بل إن الولايات المتحدة أخبرت روسيا بأهداف صواريخها. لكن من منظور أوسع، كشف غياب الرد الروسي عن عدم وجود رغبة روسية حقيقية في الدخول في حرب باردة جديدة.

لقد كانت سوريا وما تزال بمثابة منصة يستعرض فيها الرئيس الروسي عضلاته، وتختبر فيها القوات الروسية أحدث أسلحتها، وتشكل فيها القوة السياسية الروسية الأحداث بعيداً عن أراضيها. لذلك فإن المخاطرة بكل هذا عبر شن حرب ضد دولة أخرى قد تتسبب في خسائر فادحة للروس، أو بهزيمة مهينة لقواتهم، تبدو أمراً غير معقول بالنسبة لرجل تكتيكي ببراعة بوتين. فالأمر في جوهره لا يعدو كونه استراتيجية اقتناص فرص سهلة: زخارف قوة عالمية دون أي من التكاليف المرتبطة بها.

ولا شك أن روسيا استغلت الحرب السورية كوسيلة دعائية لقوتها، فمن المعروف أنها قامت باستعمال صواريخ كروز “كاليبر” الجديدة في شهر أكتوبر لضرب مواقع تابعة لتنظيم “داعش”، الأمر الذي أثار مخاوف حقيقية لدى إدارات الدفاع الأمريكية والأوروبية. لذلك عندما قام بوتين بالإعلان عن صاروخ جديد ذي قدرات نووية في مارس من السنة الجارية، تم أخذ الأمر بجدية أكبر. إلا أن فكرة استخدام هذه الصواريخ ضد جيش دولة ما لا يزال احتمالاً بعيداً.

وقد سبق أن مررنا بموقف مماثل من قبل؛ فقد أصدر ترامب السنة الماضية أمراً بمهاجمة قاعدة جوية سورية خالية تقريباً في رد على استعمال النظام السوري للأسلحة الكيماوية مرة أخرى، وقد ألمح البعض أنه يمكن أن تقوم موسكو بالرد على هذا الهجوم، لكن هذا لم يحدث.

بعد ذلك بشهرين، أسقطت الولايات المتحدة طائرة مقاتلة سورية للمرة الأولى، وهذه المرة قامت روسيا برد فعل، وذلك عبر التهديد باستهداف طائرات التحالف، لكنها لم تقم سوى بقطع خط الاتصال الدائم بشأن مناطق “عدم الاشتباك” الذي يستعمله الطرفان من أجل التواصل، وقد تمت إعادة ربطه بعد مرور فترة من الزمن.

لكن أخطر المشاكل لم تحدث في الجو، بل في محافظة دير الزور شرق البلاد، على الحدود مع العراق. ففي شهر سبتمبر من السنة الماضية، قامت الطائرات الروسية بضرب قاعدة تابعة لمقاتلين أكراد كان فيها أيضاً موظفون أمريكيون. والأكثر خطورة من ذلك هو أنه في مستهل شهر فبراير من السنة الجارية، قامت القوات الأمريكية بقتل بضع مئات من المرتزقة الروس في تبادل لإطلاق النار بين الطرفين. وتظل الأرقام المتعلقة بهذه الحادثة غير معروفة بسبب عدم نشر التفاصيل الكاملة. وبما أن روسيا تزعم أنها لا تملك أي قوات في تلك المنطقة، وأنه لا دخل لها بأي مرتزقة هناك، فقد كان في مصلحة الطرفين التعامل مع هذه الحادثة خلف الكواليس.

إن كل حادثة من هاتين تشير إلى مدى نفور كل من الطرفين من الدخول في صراع حقيقي. فرغم أن روسيا بشكل خاص متورطة بشكل كبير في سوريا، إلا أنها ترغب في أن تظل خارج أي صراع حقيقي مع جيش دولة ما.

وقد سمحت روسيا لتركيا بالتحرك كما تشاء على الحدود، ولإسرائيل بالقيام بضربات جوية من حين لآخر، كما أن ردها على قيام الجيش التركي بإسقاط طائرة حربية روسية كان اقتصادياً لا عسكرياً.

كل هذا يعني أنه ليس من المرجح أن تقوم روسيا في قادم الأيام بالاشتباك عسكرياً مع أي دولة في سوريا، إلا إذا كانت مصالحها المباشرة مهددة. ففي مصلحة روسيا أن تعامل الدول مثل تركيا، التي تملك عضوية في حلف “الناتو”، وحلفاء الغرب مثل إسرائيل كتابعين لها. وإذا حدث واقتضت الحاجة التصعيد في التهديدات، أو حدوث مواجهة قصيرة، فيبدو أن موسكو مستعدة لذلك. لكن الدخول طوعاً في صراع ضد دولة ما ليس ضمن حسابات بوتين. فأفضل طريقة يمكن بها لموسكو الفوز بحرب باردة جديدة هي ألا تخوض حرباً مماثلة أبداً.

AFP PHOTO/POOL/Mikhail KLIMENTYEV

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: