في العام 1954 حين قادت كندا محاولات تنفيذ الهدنة في أعقاب حرب الهند الصينية؛ كانت أهداف “القوة الوسطى” الصاعدة تتسم بالنُبل، وصدر حينها بيان عن الحكومة الكندية جاء فيه: “النزاعات المحلية من الممكن أن تتحول إلى حروب شاملة، لذا فإن فرض الأمن سيخدم قضية السلام في كل مكان، ولو نجحت كندا في محاولة ترسيخ الأمن والاستقرار في منطقة جنوب شرق آسيا، فنحن بذلك نقدم خدمة لوطننا فضلًا عن تقديم خدمة لقضية السلام”.
لكن الشهر الماضي؛ وحين أنذرت المواجهات بين الجنود الصينيين والهنود باندلاع نزاع إقليمي جديد؛ فإن كندا التزمت الصمت شأنها شأن باقي القوى الوسطى على مستوى العالم، وكما أشار بعض المراقبين المهتمين بالشؤون الكندية على وسائل التواصل الاجتماعي؛ فإن أوتاوا قد تخلّت عن مبدأ الحفاظ على السلام في مواجهة الواقع المتمثل في صعود الصين.
وبعد أكثر من هجوم تعرضت له السياسة الخارجية الكندية؛ فإن هذا الهبوط التاريخي أثار سؤالًا هامًا يخص العلاقات الدولية: في عالم بات ثنائي القطب بشكل متصاعد وعلى رأسه الولايات المتحدة والصين؛ هل لا زالت القوى الوسطى تحظى بالأهمية؟.
والقوى الوسطى – التي تُعرف بأنها الدول المصنفة ضمن أكبر 20 اقتصادًا على مستوى العالم لا تُشكّل إلا القليل من التهديد لجيرانها – وتلك القوى كانت بمثابة عامل تحقيق التوازن بين الولايات المتحدة والصين لعشرات السنين، والأمثلة على هذا الأمر متوفرة بغزارة؛ وعلى سبيل المثال فقد قادت اليابان في العام 2018 محاولات إنقاذ التجارة الدولية، بعد انسحاب إدارة ترامب من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ. وكانت النتيجة هي إبرام الاتفاق الشامل والتقدمي للشراكة عبر المحيط الهادئ الذي يضم دولًا إقليمية أعضاء في اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ باستثناء الولايات المتحدة. ويأتي هذا في أعقاب عشرات السنين التي تشكلت فيها دبلوماسية القوى الوسطى، والتي شملت جميع الأمور؛ بدءًا بجهود مراقبة الأسلحة الكيميائية (التي قادتها أستراليا)، وتأسيس منظومة عصرية للحفاظ على السلام وجهود الوساطة في النزاعات وحشد المجتمع المدني (كندا).
وفيما يتعلّق بالصين فإن تأثير القوى الوسطى على أي حال يتسم بالمزيد من التباين، وعلى مدار أعوام كثيرة في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي نجحت القوى الوسطى في الحصول على أفضل الامتيازات من الصين فيما يخص العديد من القضايا مثل حماية البيئة وحقوق الإنسان وحكم القانون، وفي أعقاب واقعة اعتداء السلطات الصينية على النشطاء المطالبين بالديمقراطية بميدان تيانانمين في العام 1989؛ فإن القوى الوسطى قد دعمت قرارات الأمم المتحدة بما فيها تلك التي شملت عقوبات اقتصادية قاسية على الصين.
لكن مع تصاعُد النفوذ الصيني على المستوى الإقليمي فإن إرادة القوى الوسطى لتحدي الصين بشكل علني قد تضاءلت، وبحلول العام 1998 قامت العديد من الدول الموقعة على الإجراءات العقابية التي أقرّتها الأمم المتحدة قامت برفع العقوبات عن الصين، وعلى مدار الأعوام العشرة التالية التزمت القوى الوسطى منهجًا ثنائيًا خلال التعامل مع بيكين، وبدلًا من انتقاد الصين بشكل علني على خلفية حقوق الإنسان والمعايير الليبرالية الأخرى باتت تلك الأمور تُناقش خلف الأبواب المغلقة.
وإذا ما قمنا بتنحية المخاوف المتعلقة بالشفافية جانبًا؛ فإن هذا النهج الجديد الأقل حدة حقق بعض النجاح، وهناك مبادرة جديرة بالملاحظة جرت خلال الألفية الثانية وامتدت إلى ما بعد العام 2010؛ فالجهود الدبلوماسية التي قادتها أستراليا أسفرت عن تنظيم برنامج تدريبي للقضاة الصينيين يتعلّق بحقوق الإنسان بمشاركة القضاة الصينيين ومسؤولي السجون والعاملين في الحقل القانوني، وكان رد الفعل الصيني الإيجابي على تلك المبادرة بمثابة إشارة على أن بيكين تريد أن تنخرط بصورة أوسع في تلك الأمور، طالما توقفت القوى الأخرى عن توجيه الانتقادات للصين بشكل علني.
لكن بعد حدوث الأزمة المالية العالمية وصعود شي جين بينغ إلى سدة الحكم؛ فإن تلك النقاشات خلف الأبواب المغلقة تضاءلت، حتى تكاد تكون قد تلاشت خلال الوقت الحالي.
ويمثل التفوق جانبًا من التحديات التي تواجه القوى الوسطى اليوم، وتأثير القوى الوسطى ينبعث من التزامها بمنظومة الهيمنة الدولية التي تحملت الولايات المتحدة مسؤوليتها لعشرات السنين، لكن ومع احتدام المنافسة الاقتصادية والأيديولوجية بين واشنطن وبيجين خلال فترة رئاسة كل من شي جين بينغ ودونالد ترامب فإن القوى الوسطى المدعومة من الولايات المتحدة بات موقفها أضعف.
وقد كان هذا الأمر متوقعًا ولو بالقدر اليسير، وكندا في حد ذاتها توقعت حدوث هذا الانحدار، وكما قال الخبير في الشأن الصيني بروس جيلي في العام 2011 ومع صعود الصين وهبوط الولايات المتحدة: “من الجدير بنا أن نسأل… كيف يمكن لكندا الاحتفاظ بالنفوذ الدولي في ظل وجود قوى جديدة صاعدة تتميز بالذكاء والانفتاح والبراعة؟”، ولم يقدم بروس جيلي إجابة على هذا التساؤل.
ومن المفارقة العجيبة أن تفشي وباء كورونا (كوفيد 19) ربما يأتي في مصلحة القوى الوسطى، ومع تصاعد النزاع بين الصين والولايات المتحدة حول منشأ الوباء ومسألة التحكم في الإمدادات الطبية واللقاح المزمع للوباء؛ فإن دولًا مثل فرنسا واليابان وألمانيا استجمعت مواردها لأجل عمل حالة من الاستجابة الدولية القوية، وفي الشرق الأوسط قامت الإمارات العربية المتحدة بتقديم المساعدات لأكثر من 70 دولة، وكانت العديد من القوى الوسطى رائدة فيما يخص احتواء الوباء بصورة مبكرة ومنها الجهود المنسقة التي قامت بها كل من كوريا الجنوبية وتايوان ونيوزيلندا.
وحسب آراء بعض المختصين فإن تلك الصحوة الجيوسياسية تعُد بمثابة الجانب المشرق الذي نتج عن الوباء، وخلال مقال نُشِر في مجلة فورين بوليسي الشهر الماضي توقّع الزميل الأول في معهد بروكينجز ويُدعى بروس جونز هذا الأمر حيث كتب :”لو نجحت القوى الوسطى في تحويل الجهود الدبلوماسية الأولية إلى استجابات تشمل المرحلة القادمة من الوباء فإن تلك القوى يمكنها قيادة العالم للقضاء على هذا الوباء”.
أما “هارش في بانت” أستاذ العلاقات الدولية في مؤسسة أبحاث الأوبزرفر الهندية فهو يشعر بالتفاؤل ويؤمن بأن الاستجابة الجماعية للقوى الوسطى “تعُد بادرة على صعود القوى الإقليمية التي تتمتع بالكفاءة والتي ترغب في ممارسة النفوذ تجاه الأجندة الدولية إن لم يكن وضع تلك الأجندة من الأساس”.
واليوم لا يمكن لأحد إنكار مسألة أن مستقبلًا تقوده القوى الوسطى يعُد استباقًا للأحداث، ودون دعم الولايات المتحدة والصين ستكون لدى القوى الوسطى أمكانيات محدودة لمواجهة أية ظروف اقتصادية عالمية قد يتسبب فيها الوباء، علاوة على ذلك فإن دولًا مثل فرنسا وألمانيا والهند واليابان ما لم تعمل على تكوين شراكات قوية متعددة الأطراف فإن تراجع القوى العظمى من الممكن أن ينتج عنه سيناريو يصعب معه تحديد المسؤوليات على المستوى الدولي.
وتفادي تلك الفوضى يستلزم من القوى الوسطى أن تقوم بالبناء على النجاحات التي قامت بها فيما يخص مكافحة الوباء، وذلك عبر تشكيل نموذج للتعاون الدولي دون حاجة للاستعانة بواشنطن أو بيكين، وكذا فإن الأمر يستلزم انتهاج أسلوب أكثر استباقية فيما يخص الشؤون الدولية – وهو ما ينطبق على كندا في العام 1954 وليس في العام 2020، وتحقيق ذلك لن يكون بالأمر اليسير، لكن لو نجحت القوى الوسطى على مستوى العالم في تحقيق ذلك فستصبح أكثر أهمية من تلك التي تتمتع بها في الوقت الحالي.
جريج سي برونو هو مؤلف كتاب “البركات من الصين”: الذي يتناول استخدام القوة الناعمة الصينية في الصراع داخل التبت، وكصحفي فقد ظهرت أعماله في نيويورك تايمز وفورين آفيرز وجارديان وكذلك في وسائل الإعلام العالمية، وهو عضو سابق في مجلس العلاقات الخارجية ، ومحرر للرأي في صحيفة ذا ناشيونال ومقرها أبوظبي ، ومجلة بروجكت سيندكيت ومقرها براغ.