يشهد الاقتصاد اللبناني وضعًا كارثيًا، ورغم ذلك، تستطيع البلاد النجاة من محنتها إذا تمكنت في النهاية من الاستفادة من الرواسب الهيدروكربونية قبالة سواحلها، وللقيام بذلك، يجب على لبنان أولاً تحديد حدودها البحرية مع إسرائيل –وأبرزها الحدود المائية المتنازع عليها حاليًا. وهناك مشكلة في أن الجانبين قد اتخذا مواقف مغايرة ولن يتزحزحوا عنها. ولأن إسرائيل تمتلك اقتصادًا قويًا، فهي غير عابئة بأمر لبنان، وهذا ما يجعل بيروت في موقف لا تحسد عليه ويدفعها في نهاية المطاف إلى التنازل عن مطالبها، أو المخاطرة بالإضرار أكثر باقتصاد البلاد ورفاهية المواطن.
وكما هو الحال مع كل ما يتعلق بلبنان وإسرائيل، هناك تعقيدات منذ البداية. والواقع يشهد أن البلدين لا يزالان في حالة حرب منذ عام 1948. ولهذا حذر الطرفان الإسرائيلي واللبناني من أي تفاؤل سابق لأوانه في أعقاب المحادثات الرسمية التي جرت بينهما، برعاية الأمم المتحدة والولايات المتحدة، في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي. وكان المشككون على حق، حيث انهارت المفاوضات بعد شهرين. وألقى وزير الطاقة الإسرائيلي،”يوفال شتاينتس”، اللوم على لبنان بسبب تغيير موقفها من ترسيم الحدود البحرية سبع مرات”.
والسبب الرئيسي في النزاع هو جزيرة صغيرة غير مأهولة تُسمى “تخيلت”، وخط في الخريطة رسمه مسؤول من وزارة الخارجية الأمريكية.
واسم الجزيرة مستوحى من الصبغة واللون المشتق منها. ورغم الإشارة في الكتاب المقدس العبري إلى الصبغة تحديدًا (التي يُعتقد أنها صبغة زرقاء اللون) ومصدرها، إلا أن ذكرهما لم يرد منذ أمدٍ بعيد. ومن ناحية أخرى، يمكن رؤية النتوء الصخري لجزيرة “تخيلت” من على مسافة كيلومتر فقط من ساحل “رأس الناقورة” في شمال إسرائيل. خلال المحادثات في عام 2012، اقترح الوسيط الأمريكي،”فريدريك سي هوف”، حدودًا بحرية انطلاقًا من موقع جزيرة “تخيلت”، مما أدى إلى تشكيل مجموعة من المناطق المائية المتنازع عليها، والتي تبلغ مساحتها 860 كيلومترًا مربعًا، بنسبة 45-55 في المئة لصالح لبنان. وقال “هوف”، إن ترسيم حدود المنطقة المتنازع عليها سيتم الاعتراف به بالكامل بموجب القانون الدولي.
ومع ذلك، فإن الخط الذي رسمه “هوف” سيحرم أيضًا لبنان من 1800 كيلومتر مربع تطالب بها إسرائيل حاليًا، وهي منطقة تحتوي على حقل غاز “كاريش”. ولهذا نجد أن لبنان أصرت في الجولة الأخيرة من المحادثات على نقل خط “هوف”. وتمتد المنطقة المتنازع عليها بطول ثلاث بلوكات من إجمالي 10 بلوكات قد قسمتها لبنان للترخيص والاستكشاف والحفر، بما في ذلك البلوك 9 المثير للجدل.
ويقول المفاوضون اللبنانيون إن جزيرة “تخيلت” لا يمكن أن تكون نقطة انطلاق لخط هوف، ويرون أن الخط الفاصل يجب أن يبدأ من “رأس الناقورة”، وهي بلدة في جنوب لبنان بالقرب من الحدود مع إسرائيل. ويصر المفاوضون اللبنانيون على أن هذا مقبولاً من الناحية الفنية والقانونية في ضوء الدراسات التي أُجريت منذ عام 2011، بما في ذلك النتائج التي توصل إليها المكتب الهيدروغرافي للمملكة المتحدة. وإذا ما تحرك خط هوف فستصبح لبنان مسؤولة قانونًا عن 1430 كيلومترًا مربعًا من البحر، بالإضافة إلى حوالي نصف حقل غاز كاريش.
وتقول “لوري هايتايان”، الخبير في إدارة الموارد الطبيعية في بيروت، إن القانون الدولي يدعم موقف لبنان، وتستشهد بالحكم الذي أصدرته محكمة العدل الدولية عام 1985بشأن نزاع بين ليبيا ومالطا، وكان منطوق الحكم كالآتي: إن الإنصاف في وضع خط على أبعاد متساوية مرهون باتخاذ الاحتياطات اللازمة للقضاء على التأثيرات المتفاوتة لبعض الجزر والصخور والبروز الساحلية الصغيرة “، أي أن خط “هوف”لا يمكنه الانطلاق من جزيرة “تخيلت”، وفقًا لهذا القرار.
وقالت “لوري” إن اسئناف المفاوضات أمر غير وارد إلا بعد أن تقدم إسرائيل مقترحًا مضادًا.
ومن ناحية أخرى،يقول “أودي إيفينتال”، من معهد السياسة والاستراتيجية في مركز هرتسليا متعدد التخصصات ” إن فشل لبنان في العودة إلى التعريف الأصلي لخط “هوف”هو “وصفةً للمأزق”، وأضاف: “لا توجد فرصة بأن تقبل إسرائيل بالتعريف اللبناني الجديد المتطرف للمنطقة المتنازع عليها، لما فيه من تعدي على حقل الغاز الإسرائيلي، كاريش”. وأضاف، لكي تمضي المحادثات قدما، يجب أن يعود لبنان إلى الشروط الأصلية لخط “هوف”.
ويعتمد موقف إسرائيل على حقيقة أنها غير عابئة بالبلوك “9”. ولن تستفيد إسرائيل كثيرًا من إبرام اتفاقية بحرية مع لبنان. والسبب في ذك، على سبيل المثال، هو أن الاقتصاد إسرائيل، الزاخر بالشركات التكنولوجية الناشئة، هو اقتصاد قوي في أفضل الأحوال، وناضج بالدرجة التي تجعله يصمد في وجه جائحة فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19” بشكل أفضل من الدول المتقدمة الأخرى.
ومع ذلك، باتت لبنان في معضلة كبيرة بسبب المأزق المتعلق بالبلوك “9”. في عام 2019، أي العام الذي سبق جائحة فيروس كورونا المستجد “كوفيد -19″،حيث تقلص الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 7٪ تقريبًا. و كان العام الماضي بلا شك أسوأ من ذلك، بالنظر إلى اعتماد البلاد على السياحة. وعلى أساس الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، كان لبنان في عام 2018 ثالث أكثر دولة مثقلة بالديون في العالم. وكمقياس لثقة المستثمرين في اقتصادها، بلغت القيمة السوقية لأسهمها بالكامل، اعتبارًا من 9 أبريل/نيسان، أكثر من 9 مليارات دولار – أو ما يقرب من قيمة شركة أو شركتين أمريكيتين ذات رأس مال متوسط.
علاوة على ذلك، فإن لبنان هو حديث العهد بلعبة المواد الهيدروكربونية في شرق البحر الأبيض المتوسط الهيدروكربونية. وفي عامي 2009 و2010 على التوالي، اكتشفت إسرائيل الغاز في حقلي “ثامار” و”ليفياثان”. وفي عام 2011، اكتشفت قبرص الغاز في حقل أفروديت. وتحتمل مصر المركز السادس عشر من حيث أضخم احتياطي للغاز في العالم. حتى أن سوريا انضمت إلى هذا الجمع من الدول، إذ أبرمت صفقة مع إحدى شركات الطاقة الروسية في مارس/آذار لبدء التنقيب في المياه التي يطالب بها لبنان.
وشعر المسؤولون في إسرائيل بالحيرة بسبب ما فعلته لبنان. فمن شأن الحدود البحرية القانونية المتفق عليها أن تمهد الطريق لبيروت لترخيص الشركات الدولية لبدء الاستكشاف. وتستطيع لبنا بهذا القدر من النشاط، ناهيك عن التنقيب الفعلي وتصدير المواد الهيدروكربونية، انتشال الاقتصاد اللبناني من عثرته.
ولطالما كانت الولايات المتحدة الأمريكية نموذجًا للدولة الوحيدة القادرة على التوسط في إبرام صفقة. ومصلحتها في ذلك هو تقويض نفوذ جماعة حزب الله المدعومة من إيران – حيث سيكون لبنان الأكثر ازدهارًا أقل استعدادًا لدعم أنشطة حزب الله الممولة من إيران. وقد انهارت الجولة الأخيرة من المحادثات في الأيام الأخيرة لإدارة ترامب. و يبقى أن نرى هل تستطيع إدارة بايدن تقديم حوافز إلى لبنان وإسرائيل للعودة إلى المفاوضات. في الوقت الحالي، ومع ذلك، أصبح التوصل إلى التوصل إلى اتفاق أمرًا بعيد المنال كمثل العثور على الصبغة الحقيقية لصبغة جزيرة “تخيلت” القديمة. وهذا يُثير الأسف، ولاسيما على لبنان.
بيركو أوشليك، زميل باحث ومحاضر منتسب في جامعة كامبريدج.