بعد وفاة القائد، ينظم التابعون صفوفهم مرة أخرى. وجاءت البشارة بمقتل أبو بكر البغدادي منذ أيام، وربما أسابيع، عبر وسائل الإعلام، والجدل السياسي حول حقيقة الغارة التي أودت بحياته، ومن هو صاحب الفضل في القبض على أحد أكثر الرجال المطلوبين في العالم. ولكن بعيدًا عن الكاميرات، هناك تغير في المشهد الجهادي.
ولا يزال في جعبة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” الاف المقاتلين في الشرق الأوسط – وقدرت الأمم المتحدة العام الماضي أن تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” ربما يمتلك “18,000” مقاتل. وهناك الكثير منهم في خلايا نائمة، أو تعمل بشكل شبه مستقل. وهناك اعتقاد بأن مئات آخرين فروا من السجون الكردية عندما اجتاحت القوات التركية شمال شرق سوريا في تشرين الأول/ أكتوبر. وهذا بخلاف الجماعات الممتدة من غرب إفريقيا وصولاً إلى الفلبين، والتي تعهدت بالولاء للمنظمة الإرهابية. لذا، فإن وفاة البغدادي لن تغير شيئًا.
وبدلاً من ذلك، فإن نتيجة وفاة البغدادي ستكون تهيئة الظروف لحدوث تغيير في المشهد الجهادي في الشرق الأوسط. فمع وفاة البغدادي، يمكن فتح باب المصالحة بين المجموعات التي كانت في السابق معادية، وظهور قادة جدد، وتهديد جهادي جديد. وبعيدًا عن وضع حد لسفك الدماء الذي يمارسه الجهاديون، فمع وفاة البغدادي ينتهي مجرد فصلاً واحدًا.
ومن جوانب عدة، تتشابه الجماعات الجهادية مع الأحزاب السياسية في طريقة عمل كلٍ منهما. فالأحزاب الناجحة تكون جاذبة للمتابعين والمال. ومن خلال وجود قصة مقنعة، وقائد كاريزمي، وشعور بالزخم، يتضح لنا كيف ينظر الآخرين إلى الجماعة الجهادية، وكيف لهذه الجماعة أن تكتسب المزيد من الدعم.
وفي محاولتها لتكوين دولة “الخلافة“، شهد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” مرحلة بالغة الأثر، واجتذبت عشرات الآلاف من الشباب والشابات إلى تلك الدولة البدائية من منازلهم ووظائفهم، في مدن وبلدات من جميع أنحاء أوروبا والشرق الأوسط الشرق وآسيا. ولكن مع تفكك المناطق التي يسيطر عليها التنظيم في نهاية المطاف، وأولها كان في العراق ثم في سوريا، انجرف أتباع التنظيم عن قيادته المركزية، وأصبح تركيزهم منصب على القضايا المحلية والتمويل الذاتي.
ومع وفاة البغدادي، تحتاج هذه المجموعات إلى قائد وتوجيه جديد. والسؤال الحقيقي الوحيد هو، أنى لتلك الجماعات بهذا القائد والتوجيه الجديد. قد يخرج زعيم جديد من رحم الهيكل القيادي الحالي لداعش، أو من هؤلاء المقاتلون الذين تعج بهم صفوف الجماعات الجهادية الأخرى الموجودة.
وفي واقع الأمر، فإن العودة إلى المشهد بعد وفاة القائد هي بالضبط ما حدث لداعش نفسها قبل عقد من الزمن. وبعد مقتل المتشدد الأردني، أبو مصعب الزرقاوي، المؤسس لتنظيم الدولة الإسلامية، في عام 2006، اندمجت الجماعة، والتي عُرفت حينها بتنظيم القاعدة في العراق، مع جماعات مسلحة أخرى، واكتسبت قائدًا جديدًا، وابتعدت عن المعركة الدولية التي كانت تشنها القاعدة على أرض العراق نفسها.
وعندما تولى البغدادي مسؤولية التنظيم بعد أربع سنوات من الاندماج، عاد البغدادي إلى الاهتمام بالشأن الدولي، حيث جذب المقاتلين الأجانب. لكنه احتفظ بأحد الأفكار المهمة التي تشكلت في السنوات التي تلت وفاة الزرقاوي، وهي: الخلافة داخل الأراضي العراقية والسورية. في غضون بضع سنوات، وبعد أن مزقت الحرب الأهلية السورية تلك الدولة، وجد تنظيم الدولة الإسلامية وتلك والفكرة ضالتها.
ومهما كانت الجماعة، أو الأحداث المكررة، فكل ما هو آتي سيتعلم الدرس مما كان عليه تنظيم الدولة الإسلامية “داعش“. وبنفس الطريقة التي تتعلم بها المجموعات السياسية من غيرها في جميع أنحاء العالم، ستنظر الجماعات الجهادية إلى ما حدث سابقًا، وتسعى لتكرار عوامل النجاح. وبالنسبة لتنظيم الدولة الإسلامية في عهد “البغدادي“، شكلت تلك العوامل قصة بالغة الأثر: فالتسلح بالقسوة يتم توثيقه بالكاميرات لترويع المعارضين، وإلهام المشاهدين من جميع أنحاء العالم، وأهمية السيطرة على المدن والبلدان لجني الأموال، وتوفير العمل للسكان الذين يتنقل أفراد التنظيم بينهم.
ومن الجدير بالذكر أن هيئة تحرير الشام، التابعة لتنظيم القاعدة في وقت سابق، والتي باتت اليوم أكبر مجموعة مسلحة في إدلب في سوريا، تجني بالفعل الأموال وتوفر فرص العمل. لذا، فبالنظر إلى أي من الجماعات في الشرق الأوسط التي تمتلك وضعًا جيدًا يمكنها من اكتساح مقاتلي داعش، وتكون المستفيد المباشر من وفاة البغدادي، سنجد أنها “هيئة تحرير الشام“.
وعلى الرغم من التنافس بين “هيئة تحرير الشام” وتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في وقت سابق، إلا أن الوضع بعد وفاة “البغدادي” يمنح الطرفين فرصة للمصالحة والاندماج مع بعضها بعضًا. وأظهرت هيئة تحرير الشام أنها أكثر براغماتية من تنظيم الدولة الإسلامية “داعش“، حيث تحالفت الهيئة مع مختلف الجماعات المسلحة المتنافسة داخل إدلب. ومع ذلك، تصب هيئة تحرير الشام اهتمامها، في الوقت الحالي، على إدلب، وهو الاهتمام الذي قد يثير سخط أولئك الذين يؤمنون بالتطلعات العالمية لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش“.
وعلى أي حال من الأحوال، فإن مكاسب هيئة تحرير الشام من وفاة البغدادي سيقود إلى نتائج متعددة، بعضها داخلي حول مسألة الجهاد، مثل مسألة هل من الضروري شن جهاد عالمي أو بناء دولة صغيرة، وبعضها خارجي، على سبيل المثال، حول ما إذا كان نظام الأسد أو تركيا سيجتاحان إدلب.
ولكن ما يثبته تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” هو أن النجاح يجلب أتباعًا جدد. ومع مقتل البغدادي، وتشتت مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية “داعش“، تعد هيئة تحرير الشام من أكثر الجماعات تماسكًا على مستوى القيادة وأفضلها تسليحًا في جميع أنحاء سوريا والعراق، والتي تتبنى الجهاد. إن هيئة تحرير الشام في أفضل حال لها لجذب أتباع جدد وتوجيههم نحو طريق جديد. ولذا، فلم تؤدي وفاة البغدادي إلى وقف العنف.
إن الجهادية هي رد فعل على القضايا السياسية الموجودة في جميع أنحاء العالم بالإضافة الى القضايا القائمة حتى الآن في الشرق الأوسط. وربما يكون تدمير الدول التي تقوم بوظيفتها كدول – كما في دولة العراق بسبب غزو عام 2003، وفي سوريا بسبب الحرب الأهلية – قد هيأ المناخ للجهاديين، غير أن التوترات الأساسية التي استغلها الجهاديون بسبب نقص فرص العمل والحكم غير الرشيد كانت موجودة بالفعل. ولا تزال تلك المشكلة قائمة في المناطق الأخرى التي دعمت تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” بالمقاتلين، سواء من المناطق الفقيرة في أوروبا أو آسيا. إذاـ فالأسباب الجذرية هي أسباب سياسية.
وإلى أن يتم التعامل مع تلك المظاهر، فإن وفاة أي شخصية بعينها – حتى وإن كان شخصٌ يكتنفه الأساطير مثل البغدادي – يعني الكثير بالنسبة لأولئك الذين أمام الكاميرات أكثر من أولئك الموجودين على الأرض.
يؤلف “فيصل اليافعي” حاليًا كاتبًا عن الشرق الأوسط، وهو معلق دائم لدى الشبكات الإخبارية التلفزيونية العالمية. عمل “فيصل” لدى العديد من وكالات أنباء مثل “الجارديان” و“بي بي سي“، وأعد تقارير عن الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا.