أخيراً وبعد طول انتظار ومن غير جعجعة، عرض وزير الدفاع الأمريكي تفاصيل استراتيجية دونالد ترامب الجديدة لسوريا. وفي كلمة ألقاها في جامعة ستانفورد خلال الشهر الماضي، أوضح ريكس تيلرسون ما تأمل الولايات المتحدة تحقيقه في سوريا. غير أنه لم يوضح آلية تطبيق هذه الرؤية. ولعل سبب هذا التحفظ هو أن الخيارات المتاحة لن يتقبلها الرئيس ترامب ومؤيديه أو آنها غير مجدية عسكرياً ولعلها استراتيجية عقيمة.

وحدد تيلرسون بعض الأهداف العامة موضحاً أن الولايات المتحدة ستبقى في سوريا على المدى الطويل، مستهدفة ما بقايا داعش وخلايا القاعدة الصاعدة ولا سيما لمنع النفوذ الإيراني في البلاد. وستسعى الولايات المتحدة إلى تحقيق الاستقرار فى المناطق الخاضعة حالياً لسيطرة المتمردين كما أنها ستستمر في دعم انعقاد انتخابات وطنية تحت رعاية الأمم المتحدة والتي تأمل أمريكا ”أن يحث الشعب السوري والأفراد من خلالها نظام الأسد على التنحي“ على حد قوله.

وصل الخطاب إلى نهايته من غير تفسير واضح لكيفية تحقيق هذه الأهداف. وحتى الآن، تبين أن استراتيجية تيلرسون في سوريا ليست إلا كلمات.

وتبع هذه الكلمة استنفار شبه تلقائي للمحللين فلم يبدو هذا الخطاب وكأنه استراتيجية ”ترامبية“. فإنه من جهة يتوافق تماماً مع ما حاول ترامب القيام به في المجالات السياسية الأخرى، وهو سياق يتجه بعكس ميراث باراك أوباما السياسي تماماً. فالغوص في مستنقع الحرب السورية اليوم يشكّل انقطاعاً حاسماً مع السياسية التي اتبعها البيت الأبيض في عهد أوباما.

ومع ذلك، يبدو أنها سياسة لا يمكن أن يتقبلها ترامب ومتابعيه. وإذا تم تطبيق استراتيجية تيلرسون على أرض الواقع فقد تتطلب التزاماً عسكرياً طويل الأجل وغير محدود في الزمن فضلاً عن تركيز على تغيير النظام ممّا يترجم في الواقع باعتماد أهداف الجماعات المتمردة السورية كأهداف واشنطن نفسها مع قابلية تحوّل ذلك إلى تشابك سياسي وعمليات عسكرية. وسيصعب على ترامب الإقناع بهذه الاستراتيجية تحت شعار ”أمريكا أولاً“.

و سيصعب إقناع الأمريكيين بهذه السياسة الجديدة سياسياً ولربّما أن الأسوأ من ذلك صعوبة تطبيق هذه السياسة عسكرياً.

لا تزال المشكلة الجوهرية التي تواجه الولايات المتحدة في سوريا هي عدم وجود تهديد فعلي باستخدام القوة حيث أن كل الأهداف التي حددها تيلرسون من مهاجمة داعش والقاعدة، ووضع حدّ للنفوذ الإيراني، ودفع الأسد إلى الانتخابات تتطلب القدرة على استخدام القوة داخل سوريا. لكن القوة التي تبدو الولايات المتحدة مستعدة لاستخدامها لا تتناسب إلا مع أهداف احتواء داعش وتنظيم القاعدة. أم النقاط الأخرى فلن تؤوا من غير زيادة زاخرة في عدد القوات على الأرض، ليتعدى البضعة آلاف التي تزعم الولايات المتحدة إبقائهم.

وأما التفسير البديل فهو أن أمريكا، وفي سعيها للحفاظ على مصالحها في سوريا لتترك بصمة مالية وعسكرية الصغيرة، سيتعين عليها أن تبرم صفقات مع تركيا وموسكو، ولربما مع نظام الأسد نفسه.

فقد تقرر الولايات المتحدة، على سبيل المثال، أن ترسم حدود بعض المناطق في الأجزاء الشمالية من سوريا على طول الحدود مع تركيا، وأن تضعها تحت مراقبة القوات الكردية. بيد أن ذلك قد يتطلب اتفاقاً غير مباشر مع نظام الأسد بعدم السعي لاستعادة المنطقة والسماح للتجارة الحيوية بالمرور عبر المناطق الخاضعة لسيطرتها. (فالأتراك لن يعطو الميليشيات الكردية هذه الحقوق.)

قد تكون لمثل هذه الصفقة تكلفة سياسية على واشنطن من حيث توسيخ اليدين وأي تسريب من هذا النوع قد يعرض واشنطن لاتهامات مثل التعامل مع نظام تهدف علناً ​​إلى إسقاطه.

إن استراتيجية تيلرسون غير قابلة للتطبيق لا بل إن مجرّد رسم خطوطها العريضة قد يكلّف أمريكا الكثير. وإذا تم تنفيذها على حب ما تم توضيحه فمن المرجح أن تدفع هذه السياسة كل من تركيا وروسيا وسوريا نحو المزيد من التقارب. وقد فعلت ذلك بالفعل.

واختلفت روسيا وتركيا على مدى عدة أشهر حول وحدات حماية الشعب أي الميليشيات الكردية داخل عفرين حيث اعتبرت تركيا المیلیشیات الکردیة على صورة أخواتها المسلحین عبر الحدود. أما موسكو فكانت على استعداد للتعامل معها، بل أصرت على حضور مؤتمر سوتشي للسلام.

وإن مجرد اقتراح مسؤولين أمريكيين إنشاء قوة حدودية تتألف من مقاتلين أكراد قد دفع موسكو إلى إدراك الخطر الكامن في وجود قوة تسيطرعليها الولايات المتحدة وأعطت أنقرة الضوء الأخضر لخوض المرحلة الأولى من عملية عفرين. وبعد أيام قليلة من هذا التلويح التقى تيلرسون وزير الخارجية التركي وفى اليوم التالي ”أوضح“ أنه لن يتم تشكيل أي قوة. غير أن الضرر كان قد وقع وتخلّت الولايات المتحدة مرة أخرى عن حلفائها الأكراد وفي لمحة بصر بدأت تركيا عمليتها ضدهم في عفرين.

وفي الوقت عينه، دفعت الولايات المتحدة دمشق إلى الاقتراب من تركيا. وليس لدى بشار الأسد أي مصلحة في قيام دولة كردية منفصلة على الحدود مع تركيا. ولربّما كان متسامحاً حيال الميليشيات الكردية السورية بينما امتنعت هذه عن مهاجمة قواته. لكنه لن يتحمّل وجود جيوب تحت السيطرة الأمريكية على الحدود السورية. وبذلك بدت سياستي دمشق وأنقرة متشابهتين حتى الآن وعلى الأقل في ما يخص عفرين.

ولمّا كان أوباما قد أساء في تعاطيه مع الأزمة السورية غير أنه كان محقاً ولو في اعتباره الأهم ألا وهو أن ما من مصلحة حقيقية للولايات المتحدة في سوريا. ومن ناحية أخرى، فلكلّ من اللاعبين الرئيسيين الآخرين أي تركيا وروسيا وإيران مصالح في سوريا وستكون رغبتهم في إنفاق رأس المال السياسي والموارد المالية والأصول العسكرية للدفاع عن تلك المصالح أشد من رغبة الولايات المتحدة في القيام بذلك. كما يمكنهم الخوض في تلك العمليات على المدى الطويل. ولذلك، فإن أي تحول في سياسة الولايات المتحدة يجب أن تقدّر أهدافه جدّ التقدير.

أصبحت سوريا ساحة معركة للمصالح المتنافسة. ولخوض هذا التنافس بنجاح، ستحتاج الولايات المتحدة إلى وضع استراتيجية شاملة وطويلة الأجل، فضلاً عن إرادة سياسية والموارد اللازمة لتطبيقها. ومن غير الواضح ما إذا كان البيت الأبيض يعتزم خوض صراع في منطقة بعيدة عن قلب ترامب.

إذا كان ترامب جاداً في إرادته تصحيح أخطاء أوباما في سوريا، فعليه أن يفعل ما لم يفعله أوباما وأن يوفر المزيد من المال والقوى العاملة إذ لن يتم عكس تداعيات سياسة إدارة أوباما المهملة بمجرّد خطاب واحد.

Justin Sullivan/Getty Images/AFP

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: