تشكل سوريا تحدياً أمام أولئك الذين يتحلون بالتفاؤل الدائم، فهي أتون يغلي بالبؤس ومسرح لصراع يصعب على أي كان فهمه. وإذا كانت كل من عفرين والغوطة الشرقية تحظيان حالياً بأكبر قدر من الاهتمام، لا سيما في الخارج، فإن ساحات المعارك في سوريا تشمل أسماء أكثر بكثير من هاتين المنطقتين. من بين هذه الأسماء، نجد إدلب مرة أخرى، حيث تهدد حملة تشنها قوات موالية للحكومة بتعقيد شديد للحسابات المتعلقة بكسر شوكة المتطرفين، مع تداعيات ستؤثر على أي طرف مشترك في الصراع السوري.

مؤخراً، أطلقت قوات موالية للنظام، تستفيد من دعم الميليشيات المدعومة من إيران والتغطية الجوية الروسية، حملة للاستيلاء على الأراضي في إدلب، بحجة طرد جماعة “هيئة تحرير الشام”، المعروفة أيضاً بمسمى “القاعدة في سوريا”، التي تتمركز بالمنطقة. وقد كان للقتال أثر كارثي، حيث أودى بحياة ما يناهز 300 مدني بالفعل، وتهجير أكثر من 300 ألف شخص داخلياً. هذا وتخرق الحملة اتفاق عدم التصعيد الذي وقعه رعاة “محادثات أستانة” وهم روسيا وتركيا وإيران. ومع ذلك، ما زالت الحكومات الأجنبية تتفادى التعبير عن إدانة قوية للنظام السوري بسبب تواجد “هيئة تحرير الشام” في إدلب. غير أنه بدلاً من إضعاف الجماعة الإرهابية، من المرجح أن تدفع الهجمات التي تشنها القوات الموالية للنظام الساكنة المحلية التي كانت تقاوم الجماعة في السابق إلى بدء تعاون براغماتي معها.

لقد تم تصوير شمال غرب سوريا على أنه المعقل الرئيسي لـ”هيئة تحرير الشام”، حيث لا تواجه الجماعة أي مقاومة تُذكَر. لكن هذه المزاعم ليست صحيحة تماماً؛ فرغم ازدياد سيطرة الجماعة على المنطقة بشكل كبير، إذ أصبحت أقوى جماعة مسلحة بعد هزيمتها لجماعة “أحرار الشام” في السنة الماضية، فإنها قد واجهت صعوبة بالغة في تحصيل دعم سكاني يماثل مكاسبها العسكرية. فسكان العديد من المناطق، خاصة كفرنبل ومعرة النعمان والأتارب، كثيراً ما خرجوا في مظاهرات ضد “هيئة تحرير الشام”، وقاوموا فعلياً مساعي الجماعة لفرض سلطتها. أما الآن، فإن حملة القوات الموالية للحكومة ضد الجماعة تتسبب في تقويض المقاومة المحلية.

إن نفوذ “هيئة تحرير الشام” يعتمد على زعمها أنها عدو لنظام بشار الأسد، كما أنها تحظى بالدعم بفضل سيطرتها في الأوقات الحرجة من الصراع على المؤسسات المحلية التي تقدم الخدمات العامة. بالمقابل، فإن شعبيتها تنخفض حين لا تقاتل نظام الأسد. آنذاك، تجد منظمات المجتمع المدني المحلية الظروف الأمثل لتنظيم المقاومة ضد “هيئة تحرير الشام”، حيث تستعيد السيطرة على المؤسسات العامة وتضغط على السكان من أجل الامتناع عن التعاون مع “هيئة تحرير الشام” والخضوع لها، وبذلك تحرم الجماعة المسلحة من استقطاب مجندين جدد وكسب الموارد المادية. وقد شهدت المنطقة مؤخراً حرباً بالرسومات الجدارية التي تقوض مزاعم “هيئة تحرير الشام” بالهيمنة على المنطقة، فالسخرية أداة قوية لتبديد جو الخوف الذي تستغله الجماعة لفرض سلطتها، فالمرء لا يخاف من الأمور التي يسخر منها. وعليه، وفي غياب الصراع المسلح، فإن “هيئة تحرير الشام” تضعف على عدة جبهات.

لكن لم يعد الأمر كذلك الآن، إذ ليس بالضرورة أن يكون عدو عدوك صديقك. فقد أرغم هجوم النظام على المنطقة الناس على إعادة تقييم موقفهم. حيث استهدفت الغارات الجوية الموالية للنظام بشكل منهجي المناطق المعروفة بمقاومتها لـ”هيئة تحرير الشام”. ففي شهر نوفمبر، استهدفت ثلاث غارات جوية سوقاً يقع ببلدة الأتارب، ما أودى بحياة 69 مدنياً وألحق أضراراً فادحة بالمباني، كما استُهدفت بلدات أخرى مثل كفرنبل (مرتان في يناير) ومعرة النعمان (أيضا في يناير).

هذا التصعيد المطرد للأعمال العدائية من قبل القوات الموالية للنظام والتي تتسبب في خسائر في صفوف المدنيين، وتلحق أضراراً فادحة بالمنازل والأعمال التجارية، وتعيق تقديم الخدمات الأساسية، سيدفع الساكنة المحلية إلى تعليق آمالها بالخلاص على القدرات العسكرية لـ”هيئة تحرير الشام” من أجل صد القوات الموالية للنظام. وبذلك فإن هذه الأخيرة تمنح فرصة لـ”هيئة تحرير الشام” لتعزيز دعم الساكنة المحلية لها من خلال التقدم العسكري. علاوة على ذلك، سيدفع الهجوم على الأرجح جماعات الثوار الأخرى للتعاون مع “هيئة تحرير الشام”، ما سيزيد من قوتها.

هذا وتعي “هيئة تحرير الشام” ظروف الساكنة المحلية، ما حمل زعيمها، أبو محمد الجولاني، على إصدار بيان صوتي مؤخراً يزعم فيه أن هجمات النظام تحشد الساكنة حوله وحول مجموعته وتقوي علاقات “هيئة تحرير الشام” مع جماعات الثوار الأخرى التي سبق لها أن نأت بنفسها عنها، وهو ما يعد رسالة واضحة من قبل الجولاني، فحواها أنه حتى لو سيطر النظام على بعض الأراضي الخاضعة للجماعة، فإنها ستظفر بالانتصار لأن هجمات النظام تحيي رغبة السكان في القتال مرة أخرى، ما سيدفعهم إلى التعاون مع “هيئة تحرير الشام”.

لا شك أن “هيئة تحرير الشام” تستحق أن تُهزم وأن يقضى عليها، لكن هذا الأمر لن يتم إلا بدعم الساكنة المحلية. فبالرغم من مقاومة سكان إدلب ونفورهم من “هيئة تحرير الشام”، إلا أنهم يعتبرون النظام السوري عدوهم الأول. وعليه، إذا منحوا الخيار، فإنهم سيدعمون أي جهة ما عدا النظام، حتى ولو كان هذا الأمر يعني التعاون تكتيكيا مع “هيئة تحرير الشام”، فلا أحد يرغب في أن يحكمه بشار الأسد مرة أخرى. هذا التعاون لا يجب أن يفسر على أنه دعم مطلق من الساكنة المحلية، لكن يتعين أن يؤخذ بعين الاعتبار في الاستراتيجيات العقلانية ضد كل من المجموعات المتطرفة ونظام الأسد، فالحسابات القطبية عادة ما تفشل في سوريا.

AFP PHOTO / OMAR HAJ KADOUR

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: