عقب اجتماع استغرق ساعتين بمقر حكومة ولاية كيرلا الهندية، ركبنا السيارة عائدين إلى الفندق فإذا بالسائق يقترح علينا أن ننحرف عن طريقنا لكي نمر بإحدى أسواق التوابل الشعبية بالمدينة. وهناك رحَّب بنا أصحاب المحلات بعبارات هندية مخلوطة بالعربية تماماً كما لو أننا في سوق شعبية في إحدى الدول الخليجية. وبصفتي دبلوماسياً بحرينياً في زيارة إلى هذه الولاية الهندية الجنوبية التي ساهمت الشيء الكثير لفائدة دول الخليج العربي، فاجأني شعور الأُلفة الذي انتابني وأنا أتنقل بين جنبات هذا المكان، فيما بدت لي الأجواء السياسية في العاصمة الاتحادية دلهي بعيدة على نحو غريب.

إن هذه التجربة التي تعود إلى 2012 كانت بمثابة تذكير بالهويات الفريدة التي تزخر بها هذه الولايات التي تشكل دولة هندية شاسعة ومفعمة بالحيوية، بل وتذكير ببرامج العمل المركَّزة محلياً التي تعتمدها الولايات الهندية. لذلك فإنه ينبغي من قادة دول الخليج الالتفات إلى أهمية التعامل والتقرب من الحكومات المحلية الهندية، علاوة على تعاطيها مع القيادات السياسية في العاصمة دلهي، إن أرادت دول الخليج تحقيق الاستفادة الكاملة من الروابط المتنامية التي تجمعها بهذا الشريك التاريخي.

إن السياسة الخارجية التي طالما اعتُمدت مع جمهورية الهند قبل تسعينات القرن العشرين ظلت مرتكزة بشكل شبه تام على المستوى الاتحادي. فرئيس الوزراء جواهر لال نهرو كان يتحكم بدون منازع في مسار العلاقات الخارجية الهندية، حيث رفض تعيين وزير للشؤون الخارجية على مدى السنوات الـ17 التي حكم فيها البلاد. بل إن هذا المبدأ قد تم ترسيخه في الدستور الهندي الذي أقر بأن السياسة الخارجية هي اختصاص اتحادي، وقد بذل كل من قسم العلاقات الخارجية ووزارة العلاقات الخارجية في الهند قصارى جهدهما للحفاظ على هذا الامتياز على مدى عقود.

لكن احتكار السياسة الخارجية على المستوى المركزي بهذا الشكل لم يحُل دون تعزيز العلاقات التاريخية بين الهند والخليج. حيث إن قوة هذه العلاقات سمحت لها بتجاوز الضغوط التي ترتبت عن حالة النبذ التي تعرضت لها الحكومة الهندية مؤقتاً في 1990 إثر ظهور صور في مختلف وسائل الإعلام لوزير الخارجية إندر كومار غوجرال وهو يعانق الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين، شهراً واحداً بعد غزوه للكويت. وقد تكون نيودلهي قد ارتكبت هفوة دبلوماسية، لكن الهنود كان قد أصبحوا فاعلاً لا غنىً عنه في الخليج.

ورغم السياسة الموحدة رسمياً، كانت الشقوق قد بدأت تظهر فعلاً على الجدران. فحتى في أوج الحرب الباردة، حين أضفت الهند الصبغة الرسمية على تحالفها مع الاتحاد السوفياتي من خلال معاهدة الصداقة في 1971، كانت مجموعة من الولايات الهندية بصدد بناء روابط متينة ومتجانسة مع الخليج، في وقت حفز فيه ارتفاع أسعار النفط نمواً اقتصادياً مذهلاً في دول الخليج، فاتحاً الباب أمام مئات الآلاف من العمال الوافدين في معظمهم من مختلف الولايات الهندية. وقد كانت الانعكاسات الاقتصادية والثقافية واضحة في الشوارع النابضة بالحياة في مدينة ثيروفانانثابورام، عاصمة ولاية كيرلا، كما هي اليوم في عواصم دول الخليج.

أما سنوات التسعينات فقد دفعت بالهند إلى حقبة جديدة من التحرير الاقتصادي، حيث فتحت اقتصادها أمام المستثمرين الأجانب وشجعت الحكومات الإقليمية على التنافس من أجل الاستثمارات الأجنبية المباشرة. وبدأت أصوات الهويات الإقليمية الهندية تعلو في الانتخابات الوطنية، ما سمح للأحزاب السياسية المحلية باستغلال نفوذها الانتخابي للتأثير في السياسة الخارجية. وفي السنوات الأخيرة، مكن هذا الأمر رؤساء الوزراء في الولايات والأقاليم الاتحادية التي يصل عددها إلى 36 من اكتساب دور أكبر في الخارج، فيما كان يشار إليه غالباً بـ”الدبلوماسية الموازية” للهند، دون استثناء الخليج من ذلك.

وقد أدت النتائج إلى تحول على الجهتين، حيث إن أبرز مثال هو كيرلا التي ينحدر منها أكبر عدد من المقيمين الهنود في الخليج، حين قام رؤساء الوزراء أحياناً بفرض ضغوطات على الحكومات الخليجية من أجل القيام باستثمارات وتحسين ظروف معيشة المهاجرين الهنود. ورغم أن الحكومات اليسارية في كيرلا كانت في السابق متحفظة في التعامل بشكل علني مع دول الخليج، إلا أن حكومة وسط اليسار بقيادة رئيس الوزراء أومن تشاندي (من 2011 إلى 2016)، وأيضاً حكومة خلفه الأكثر ميلاً لليسار بيناراي فيجايان، قد تخلصت من هذه العادات، حيث قام هؤلاء الوزراء بزيارات متعددة لعواصم خليجية.

وفي المقابل، اختلفت مستويات استجابة دول الخليج، ففي سنة 2013، قام ولي العهد البحريني الأمير سلمان بن حمد آل خليفة (لغرض الإفصاح الكامل أقول إنه مشغلي السابق) بأول زيارة رسمية يقوم بها زعيم خليجي لكيرلا، منشأ أكثر من 70 بالمائة من الهنود المقيمين والعاملين بالبحرين. وفي سنة 2017، سافر الشيخ سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة أيضاً إلى كيرلا حيث بحث فرص الاستثمار الثنائي وأعلن عن العفو عن مواطنين من كيرلا كانوا قد أُدينوا بتهم بسيطة. وبالفعل قادت الإمارات الجهود الخليجية للتعامل مع الولايات الهندية من أجل المصالح المشتركة للطرفين.

ومنذ ذلك الحين، سهر الجيل الجديد من القادة على تغيير شبه كامل للسياسة الخارجية المركزية لنهرو. فمنذ أن تولى رئيس الوزراء ناريندرا مودي منصبه سنة 2014، الأمر الذي يرجع بالأساس إلى سجله الاقتصادي كرئيس وزراء لولاية غوجارات، بات للحكومات الإقليمية سلطة غير مسبوقة لاستقطاب الاستثمار وتعزيز مصالحها الخاصة في الخارج في إطار حملة أطلق عليها اسم “الفدرالية التعاونية”. وقد دفع مودي الحكومات الإقليمية لتوقيع اتفاقيات استثمارية جديدة، وذلك كجزء من الجهود الرامية لإصلاح الإطار الاستثماري الهندي، مع التركيز على القدرة المؤسساتية للولايات على حل النزاعات محلياً. كما أحدثت حكومة مودي إدارة خاصاً بالولايات تابعة لوزارة الشؤون الخارجية في سنة 2014، لإضفاء الطابع المؤسساتي على مبدأ إشراك الولايات في السياسة الخارجية.

وفي ظل تأكيد الهند على مكانتها كقوة عظمى، من المرجح أن ينمو نفوذها في الخليج – تلك المنطقة التي عادة ما تشير إليها بـ”الجوار الممتد” – وذلك بالموازاة مع توسع الدور الدبلوماسي لولاياتها. وقد برز رؤساء وزراء الهند على مدى السنوات الأخيرة كوسطاء سياسيين مهمين على الصعيد الداخلي، لديهم مصالح واضحة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، مصالح عادة ما يتمكنون من إحراز تقدم بشأنها، خاصة إذا تعلق الأمر بالخليج. وقد استفادت بعض دول الخليج من رياح التغيير أكثر من غيرها، لكن حان الوقت ليدرك الجميع أن العلاقات مع الهند تنطوي على ما هو أكثر من احتساء الشاي مع بيروقراطيي نيودلهي.

AFP PHOTO/Money SHARMA

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: