ربما قد يكون السياسيون العراقيون غافلين عن ذلك، غير أن ما يبدو وكأنه مجرد جولة أخرى من الانتخابات البرلمانية قد يثبت أنه الأمر الأكثر تعارضا للمصالح في تاريخ الامة. فللمرة الأولى منذ سقوط نظام صدام حسين في عام 2003م، سيذهب العراقيون إلى صناديق الاقتراع تحت مراقبة العيون المتربصة لعشرات الميليشيات الموالية لإيران، والمدججة بالسلاح ولها خبرات بالمعارك، مما يهدد سلامة العملية الانتخابية برمتها. وقد دعا رئيس الوزراء حيدر العبادي إلى فرض حظر على أعضاء الميليشيات لخوض الانتخابات، غير أنه تراجع في وقت لاحق عن خطابه، إثر تعرضه لضغوط على الأغلب من جانب طهران، وخشية من أن يتم تطويقه بالتصفية الانتخابية من قبل المتطرفين الشيعة. ويبدو أن العبادي لا يرغب في التواصل مع كتل غير شيعية لتعويض النفوذ الإيراني على أي حكومة مستقبلية قد يشكلها، الامر الذي يقلل من فرص إبعاد بغداد عن طهران، وإهدار ثمة فرصة أخرى كانت ممكنة لتعزيز استقلال العراق.

ويتاح للعراقيين في هذه الانتخابات، مجموعة واسعة من السياسيين الشيعة للاختيار من بينها. فمنذ الانتخابات الأخيرة التي أجريت في عام 2014، انقسم حزب الدعوة الإسلامية الحاكم إلى فصيلين: لائحة دولة القانون، تحت قيادة رئيس الوزراء المعزول نوري المالكي، وتحالف النصر، بقيادة هادي أميري، الملازم السابق والعدو اللدود حاليا للعبادي، وهو زعيم الميليشيات الشيعية التي تشكلت في أعقاب سيطرة داعش في منتصف عام 2014، والمترأس لائتلاف الفتح، وقد يظهر كقطب شيعي ثالث. في هذه الأثناء، وعلى الرغم من أن رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر لم يكن له نفس التأثير في السنوات الماضية، فربما يتسنى له المحافظة على كتلة متوسطة الحجم، قد تكون حاسمة في تسمية رئيس الوزراء شيعي من خلال الاتفاق السياسي.

من دون شك سيكون لأهل السنة في العراق، الذين تعرضوا لظروف سيئة غير مؤاتيه خلال السنوات الخمس عشرة الماضية مقارنة بأقرانهم الشيعة والأكراد، لديهم أيضاً مزيد من الخيارات في الانتخابات. فمنذ عام 2014، تم تقسيم القيادة العراقية السنية إلى قسمين، مما يعكس الانقسام الأكبر في القيادة السنية في جميع أنحاء المنطقة.

ويسعى الائتلاف الوطني بقيادة رئيس الوزراء الشيعي السابق إياد علاوي، وهو سياسي علماني، ورئيس البرلمان السني سليم الجبوري، إلى تكرار نجاح علاوي في عام 2010، عندما فاز بـ 91 مقعد وهو أكبر عدد من المقاعد، لكنه مُنع من تشكيل مجلس وزاري تحت ضغوط من كل من الولايات المتحدة وإيران، اللذان أعطيا إشارة تأييد إلى الفائز الثاني، المالكي، والحاصل على 89 مقعدًا. إذ تحظى كتلة علاوي بدعم القوى الإقليمية، أولاً وفي المقام الأول من المملكة العربية السعودية.

في هذه الأثناء، وبدعم من تركيا، يقود رئيس مجلس النواب السابق ونائب الرئيس أسامة النجيفي، وهو سني، ائتلافا آخر يضم أغلبية من المرشحين السنة. وعن طريق أخيه أصيل، حاكم محافظة نينوى خلال سقوطها إلى داعش في عام 2014، يحظى النجيفي بتأييد قوي في هذه المنطقة التي مزقتها الحرب والتي يغلب على سكانها السنة، مع وجود توقعات بإمكانية فوزه كثاني أكبر كتلة سنية في البرلمان. وإن كان من المحتمل أن يبتعد عن كتلة علاوي-الجعبوري، وربما ينضم إلى ائتلاف المالكي إذا فاز رئيس الوزراء الشيعي السابق بمقاعد كافية للحصول على الدعوة لتشكيل الحكومة.

وأخيراً وليس آخراً، تواجه الكتلة الكردية، التي كانت ثاني أكبر كتلة في البرلمان، تواجه الآن صراعاً داخلياً واستنزافاً في صفوفها القيادية. فمنذ وفاة الرئيس السابق جلال طالباني، رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني لفترة طويلة، ومنذ مسعود بارزاني، زعيم الحزب الديمقراطي الكردي، قد تم إضعافها بعد إجراء الاستفتاء على استقلال الأكراد في العام الماضي، وهي اللائحة الكردية التي عادة ما تتشكل من هذين الحزبين والتي تبدو خارج نطاق التزامن وعرضة لخسارة قيادتها بين الأكراد إلى أخر برئاسة برهم صالح، الملازم السابق للطالباني ورئيس الوزراء السابق لحكومة إقليم كردستان. يتمتع صالح وهو علماني معتدل بالدعم في العواصم الإقليمية بالإضافة إلى واشنطن. في حال بزغ موقف علاوي أو قيادات علمانية مشابهة في استطلاعات الرأي، فمن المرجح أن يطرح صالح دعمه خلف هذا المرشح لرئاسة الوزراء.

وفي ظل عدم توازن الأكراد، ومع وجود 2.1 مليون سني لا يزالون نازحين وفقاً للمنظمات الدولية، يتمتع الشيعة العراقيون بالأفضلية، ليس فقط للفوز بالتصويت، ولكن باستخدام ميليشياتهم المسلحة غير الحكومية في قمع المعارضة داخل المجتمع الشيعي، وبالتالي التأكيد على ذهاب الأصوات إلى المنافسين الشيعة الثلاثة الرئيسيين في المحافظات الشيعية وبغداد. إن مثل هذا الاحتمال قد لا يمنح المرشحين الشيعة مزايا غير محدودة فحسب، بل قد يقلل أيضا من عدد مقاعد الأكراد والسنة في “مجلس النواب” والبالغة 329 مقعدا.

وتبدو واشنطن وحلفاؤها الإقليميون متسقين حتى الآن على قبول الولاية الثانية للعبادي. وعلى الرغم من عدم اقتراب العبادي من إيران على غرار أميري أو المالكي، إلا أنه ما زال قريبًا بما فيه الكفاية بحيث لا يمكن اعتبار فوزه في الانتخابات نجاحًا للقوات غير الموالية لإيران.

ورغم أنه من الواجب أن يُنسب الفضل إلى العبادي للقيام بحملة أقل حدة من حملة التحريض ضد السنة التي قادها المالكي في أعوام 2010 و2014، فلا يزال يبدو رئيس الوزراء الحالي أضعف من الوقوف في وجه المحاولات الإيرانية لتغيير ركائز الدولة العراقية وإعادة رسمها على صورة النموذج الإيران، ومؤخرا لبنان، حيث لا سلطة ممنوحة للشرعية المنتخبة، بل في أيدي الميليشيات المسلحة التي تقودها طهران والتي هي خارج إطار امتداد الدولة المضيفة.

وقد بدت علامات ضعف العبادي في مواجهة الإملاءات الإيرانية في رفضه منع مقاتلي الميليشيا من الترشح للانتخابات، وفي عدم استعداده لإجراء برنامج لحل هذه الميليشيات، أو على الأقل اندماجهم في القوات الحكومية النظامية.

إن باقي برنامج العبادي يفيض بالتناقضات: فهو يريد إطلاق العنان لقوى السوق، غير أنه يعد ببرامج الرعاية ممولة من الحكومة والإسكان المدعوم. ويؤيد اللامركزية لكنه قاد الجهود الرامية إلى القضاء على الحكم الذاتي السني الوليد في مهده بينما كان يتصدى بعنف مع المخططات الكردية المشابهة.

فبطريقة مثالية، ترغب أميركا وحلفاؤها في مشاهدة علاوي وهو يتلقى دعوة لتشكيل ائتلاف من شأنه أن يذهب بالعراق بعيدا، ليس فقط عن طهران، بل عن الأفكار الإيرانية وذلك بالمحافظة على دولة غير رسمية تضع الدولة الرسمية تحت بساط المراقبة. لكن في ضوء الفرضيات، ربما تضطر واشنطن وحلفاؤها إلى إجراء التسوية من أجل العبادي، وهو أقل الشرور، والذي سيظل كما هو حالياً خياراً بحكم الواقع نظراً لعدم وجود بديل أفضل.

AFP PHOTO / Haidar HAMDANI

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: