بعد أن ربحت معركتها للسيطرة على مدينة عفرين الواقعة في شمال سوريا، تواجه تركيا الآن المهمة الأكثر صعوبة لتحقيق السلام. ومدفوعة أولاً بأولوية إخراج وحدات حماية الشعب الكردية من حدودها الجنوبية، خلفت تركيا ورائها فراغًا إداريًا يتعين عليها الكفاح لسده. وشهدت تركيا محاولة سابقة لإقامة إدارة محلية، غير أن تلك المحاولة في معظمها كانت نموذجًا في الفشل، وتمثل عفرين التحدي الأكثر صعوبة.

وتظل المشكلة أكثر من مجرد الحرب التي تخوضها أنقرة على أراضيها ضد وحدات حماية الشعب الكردية وحزب العمال الكردستاني التابع لها. ولما كان الفشل في إقامة إدارة مستديمة في عفرين قد يزعزع الاستقرار في المنطقة، إلا أن المدينة تمثل أيضًا اختبارًا للمجتمعات السورية بعد انتهاء الصراع – بغض النظر عن إمكانية تخفيف حدة العداء بين الأكراد والعرب بسبب الحرب من عدمه.

وبعد مرور شهرين على قتال وحدات حماية الشعب الكردية في عفرين، أعلن الجيش التركي في الثامن عشر “18” من مارس/آذار إحكام قبضته على المنطقة الواقعة شمال شرق سوريا. ولم تقتصر نتائج عملية غصن الزيتون المدعومة من المعارضة السورية على هزيمة قوات حماية الشعب الكردية فحسب، بل أنها أقصت نظيرها السياسي المتمثل في حزب الاتحاد الديموقراطي والذي كان مسؤولاً عن الإدارة المدنية في المدينة. ولملء هذا الفراغ وحصد مغانمه، حشدت تركيا جهودها لتأمين المنطقة فضلاً عن جهودها المتزامنة لإقامة هيكل إداري جديد بالمدينة.

وعقب المبادرة التي أطلقتها أنقرة ووجهت من خلال الدعوة إلى العشرات من الأكراد السوريين ومسؤولين مؤقتين وأعضاء في المجتمع المدني للاجتماع في مدينة “غازي عنتاب” الواقعة جنوب تركيا، وفي هذا الاجتماع تم تعيين مجلس محلي مؤقت مؤلف من عشرين “20” عضوًا – أحد عشر “11” عضوًا كرديًا، وثمانية “8” أعضاء عرب، وعضو واحد تركي –لإدارة مدينة عفرين، وجميع أعضاء المجلس من السكان الأصليين لمدينة عفرين، وليست لهم انتماءات مباشرة بوحدات حماية الشعب الكردية أو حزب الاتحاد الديموقراطي اللذان تصنفهما تركيا كجماعات إرهابية. ويتولى المجلس المؤقت الذي يترأسه عضوًا كرديًا، مسؤولية إنشاء مجالس فرعية في المدن الصغرى في أنحاء المنطقة والإشراف عليها، وبحسب التنظيم الإداري، فإن المدينة تتبع نظريًا مجلس مدينة “حلب” وتخضع لإشراف الحكومة المؤقتة التابعة لقوات المعارضة السورية.

وأكدت تركيا وأعضاء مجلس مدينة عفرين على أن المجلس سيبقى لفترة مؤقتة وسيتم استبداله بمجلس أكثر تمثيلاً بمجرد أن تستقر المنطقة. وحتى حدوث هذا الأمر، سيظل المجلس مسؤولاً عن القطاعات الأساسية كالإعانات والتعليم والإعلام. وبدعم من تركيا، يسعى المجلس أيضًا إلى استئصال الفصائل المتمردة في عفرين، وتأسيس شرطة محلية، وسيبقى الأمن الإقليمي تحت سيطرة تركيا وحلفائها.

لما كان من المستحيل التنبؤ بنجاح المجلس، نجد أن مدينة “جرابلس” الواقعة على الضفة الغربية لنهر الفرات تقدم نموذجًا محتملاً للدور التركي في سوريا. فبعد أن قضى الجيش التركي على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في المدينة في العام 2016، تم تشكيل مجلس محلي مماثل، في استنساخ لنموذج موجود في مناطق أخرى يسيطر عليها الثوار. ورغم أن المجلس المعين حديثًا يحظى بدعم تركيا، إلا أنه يفتقر إلى الشرعية في أعين السكان المحليين.

ويرجع ذلك إلى عدم قدرة المجلس على تقديم الخدمات العامة الأساسية لافتقار المجلس إلى الخبرة والتمويل، وهو ما زاد من وتيرة الاستياء بسرعة كبيرة، فضلاً عن اندلاع المظاهرات، وانتهى الأمر بعزل هذا المجلس. وعلى النقيض، يُنظر بشكل عام إلى سكان عفرين على أنهم أكثر عداءً لتركيا، حيث يراها أغلبية السكان على أنها دولة احتلال، وهو ما يؤثر سلبيًا على شعبية المجلس المؤقت. وبالإضافة إلى ذلك، نجد أنه في ضوء تدفق النازحين داخل سوريا إلى مدينة عفرين، ولاسيما من المناطق الريفية في دمشق وحمص، والافتقار إلى الدعم الدولي، يتعين على المجلس بذل جهود مضنية لتوفير الخدمات إلى سكان المدينة.

لم تتسبب العمليات العسكرية للسيطرة على عفرين وجرابلس في دمار شامل، غير أن البنية التحتية العامة كالمدارس والمستشفيات ومرافق المياه والكهرباء تعرضت لأضرار فادحة. وأظهرت الحاجة إلى إصلاح البنية التحتية في جرابلس بصور عاجلة اعتماد تركيا على الحلول قصيرة الأجل أكثر من اعتمادها على الحلول المستديمة. ونتيجة لهذا، نجد أن الخدمات العامة غير موجودة أو تفتقر إلى الجودة، ولاسيما في المناطق الريفية. ومن المتوقع أن تعيد تركيا الكرة مرة أخرى وتعمل على إعادة بناء المؤسسات المدنية في عفرين كالمدارس، وتجدد مرافق المياه والكهرباء لتحسين صورتها السلبية بسرعة. وإضافة إلى ذلك، هناك الألغام والعبوات الناسفة التي أوردت التقارير أنها مزروعة في أنحاء المدينة وهو ما يعيق جهود إعادة بناء المدينة.

تقتصر الجهود الإنسانية في “جرابلس” على تركيا والمنظمات المفوضة منها، واضطر معها المفاوضين السوريين والدوليين إلى تقديم دعمهم بشكل غير مباشر من خلال المنظمات المفوضة من تركيا مما خلق شكلاً من أشكال الاحتكار الأمر الذي زاد من اعتماد السكان على تركيا وحال بينهم وبين المطالبة بأموالهم لإنشاء الكثير من المشرعات اللازمة. ومن المتوقع أن تمارس تركيا سياسة تضييق الخناق ذاتها في عفرين لضمان عدم وصول المساعدات إلى وحدات حماية الشعب الكردية أو مناصريها.

إن الوضع الأمني في عفرين أكثر تعقيدًا أيضًا من الوضع في جرابلس، فبعد السيطرة على مدينة “عفرين”، وقعت أعمال نهب واسعة النطاق، وحدث بعضها بفعل المقاتلون المتمردون. وردًا على هذا الأمر، أسست تركيا شرطة عسكرية لتأمين المنطقة، غير أن بعض الفصائل المتمردة الموجودة في المدنية استمرت في ارتكاب الانتهاكات. وأظهر الوضع في “جرابلس” أن الجهود التركية لاستعادة الأمن فيها على ما يربو من العامين لم يكلل لها النجاح بصورة كبيرة.

يتوقف استمرار النجاح التركي في عفرين بشكل كبير على طريقة إدارة المدينة والمحافظة على أمنها، وهو ما يقتضي تعزيز شرعية المجلس الجديد. ويمكن ذلك من خلال استبدال استراتيجية إعادة الإعمار قصيرة الأجل باستراتيجيات طويلة الأجل لضمان توفير الخدمات. وفي النهاية، يجب على تركيا أن تكون أكثر تجاوبًا مع القضايا المحلية الحساسة والتي ساهمت في التوترات بين العرب والأكراد، والبدء في عملية المصالحة.

AFP PHOTO / Sameer Al-Doumy

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: