يقبع العالم تحت سيطرة ظاهرة تسمى ظاهرة “الوعي الآني” وفيها يبحث المرء في كل مكان عن القناعة المفترضة والتي يتحصل عليها من خلال إدراك هذا المرء لذاته. وحتى لا يؤخذ قولي على محمل الخطأ، فلا شك أن القليل مما ذكرته شيء جيد، غير أنه لا يمكن للمرء في عصرنا هذا أن يمر بجوار نادي اليوجا أو متجر الملابس الرياضية داخل متجر التسوق دون أن يكتشف أن “الوعي الآني” تشبه الحزمة المخصصة للبيع. وبالتأكيد ليس هذا فقط ما يمثله “الوعي الآني”. وأتذكر هنا في منطقة الشرق الأوسط – نوعًا مختلفًا من “الوعي الآني” – وهو ذلك الوعي الذي يربط الفكر والصناعة، وهو الوعي الآني الذي يمكننا في نهاية المطاف من إبراز قدراتنا الكامنة كالأشخاص المتكاملين، ومصدري في هذا النوع من “الوعي الآني” هي تجاربنا الحياتية التي نمر بها.
ارتبطت السعادة طويلاً بالأنشطة التي يمارسها العقل طلبًا للمعرفة. وخلال العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، والذي يبدأ من منتصف القرن السادس وصولاً إلى القرن الثاني عشر، كانت العقول العظيمة، العربية منها وغير العربية، تجد سعادتها في طلب المعرفة لأنها السبيل نحو اكتمال الإنسان وكماله. وشهدت تلك الحضارة الإسلامية اختراعات مثل أدوات قياس حركة الأجرام السماوية، فضلاً عن ما حققته من إنجازات في علوم الطب، ووجدنا أيضًا سعادتنا في الأدب والموسيقى والفن والهندسة المعمارية. لقد اكتشفنا كل جانب في الحياة وتطرقنا إليه حتى بلغنا منتهاه.
ويعاني الشرق الأوسط في هذا الوقت من نقص شديد في السعادة، فالحرب تدور رحاها في سوريا والعراق واليمن، والفرحة الباقية يمحوها الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وشعبنا يجوب أنحاء المنطقة وخارجها كلاجئين فارين من البؤس،ـ ومع ذلك تراهم قد فشلوا أيضًا في نيل السعادة التي يبغونها خارج أراضيهم. لقد أنهك الفقر قوانا، وفقدنا الطريق نحو السعادة.
والسبيل الوحيد لإدراك إرثنا هو التفكر في التغيرات الهائلة التي ألمت بشبه الجزيرة العربية. فها هي المملكة العربية السعودية في طريقها نحو إدخال إصلاح جزري وكامل في البلاد، وهي بذلك تحاول إدخال تغييرات على المجتمع مما يجعله مجتمعًا مميزًا باقتصاد المعرفة، كما أنني أذكر بذلك الرابط الوثيق عندما عين وزير الاتصالات السعودي الشهر الماضي “أخصائي للسعادة”، وهناك دولة الإمارات العربية المتحدة والتي كان لها باعتراف الجميع السبق مع اقتصاد المعرفة. وأثناء قيادتك للسيارة عبر طريق الشيخ زايد في دبي، فلا يمكن للمرء الا يلاحظ رموز عالم التكنولوجيا العصرية والتي تضرب بجذورها في تلك المدينة. ومن خلال مدن الرياض وجدة ودبي وأبوظبي، نجد أن العالم العربي يدرك مرة أخرى مدى حاجته إلى المعرفة باعتبارها أساس الاقتصاد، وفي سعيه نحو هذا الأمر، يامل العالم العربي في احياء السعادة.
إن الاعتراف بدور الاقتصاد في توفير السعادة ليس من قبيل الصدفة، وربما ليس هناك برهان على أن ثمة رابط بين التنمية والسعادة أفضل من القرار الذي أصدرته دولة الإمارات العربية المتحدة في العام 2016 والذي يقضي بتعيين وزير ليترأس وزارة جديدة اسمها “وزارة السعادة”، وهو المنصب الأول من نوعه في العالم العربي. إن المشاعر والاحاسيس ليست من مهام الحكومة، بيد أنه يمكن تحسين المشاعر التي تولدها السياسة الحصيفة بالإدارة الرشيدة، وتلك هي مهام وزير الدولة ومسؤولياته.
وبالنظر إلى عالمنا العربي، فان هناك فرصة كبيرة لزيادة مستوى السعادة فيها بشرط أن تحذو الدول الأخرى حذو المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وفي تلك البقعة التي نعيش فيها على ظهر هذا الكوكب، يجهل الكثير منا تاريخه، ويسلكوا سريعا طريقة التنمية الاسهل وهي عبر تحصيل قيمة “استخدام” مواردنا الطبيعية، ولا يستفيدوا منها، الا، في أحسن تقدير، من خلال إنفاق قيمتها. وهناك دول لا تمتلك موارد طبيعية، وبالتالي فإنها تلجأ إلى البحث عن موارد طبيعية أو التنقيب عنها بدلاً من إرسال أبنائها وبناتها إلى الخارج من أجل الحوالات المالية التي يرسلونها إلى بلادهم، وهذا نوع آخر من الاستخدام. بينما تحتاج منطقتنا بدلاً من ذلك إلى الاستفادة من شغفنا وإبداعنا، وهذا هو الحل المستديم لإحياء النموذج العصري للسعادة التي ننشدها والمحافظة عليه.
ترعرعت في المملكة العربية السعودية على العديد من الأقوال المأثورة عن النبي “محمد” صلى الله عليه وسلم والتي تتمحور حول السعادة والمعرفة، ومنها “اطلبوا العلم من “المهد إلى اللحد”، و”اطلبوا العلم ولو في الصين”. أو هذا القول: “إن لصاحب العلم قدرة على التمييز بين الحق والباطل، فهو طريقه إلى الجنة، وصديقه في الصحراء، ومجتمعنا في الخلوة، وجليسنا إذا تخلى عنا الرفقاء – فهو يرشدنا إلى السعادة، والعون لنا في وجه البؤس، ومصدر تفاخرنا بين الأصدقاء ودرعنا في مواجهة الأعداء.
ولأن طلب المعرفة أصبح قيمة أساسية، وأصبحت العلوم والتعليم والإبداع والابتكار ثقافة – أكثر من كونها مشروع جانبي – فإن كلَ شيء ممكن. وهذا معناه أن المدينة أو الأمة أو الحضارة قد تزدهر إذا ما توفرت لديها الأدوات الصحيحة والعقول السليمة.
وفي العام 2011، أصدرت الأمم المتحدة قرارًا يعرف السعادة بأنها “هدف إنساني أساسي”، وطالب هذا القرار بنهج أكثر شمولاً ومساواة وتوازن نحو النمو الاقتصادي لتعزيز سعادة جميع الشعوب ورفاهيتهم. وحتى تتمكن منطقتنا من استعادة نصيبها العادل من السعادة، يتعين علينا أن نعيد تكريس جهودنا في التاريخ ونلتمس السعادة في استعمال عقولنا في الصناعات العصرية. فاكتشاف الرقم الصفر كان اكتشافا يعادل في أهميته انشاء الالاف من برامج ميكروسوفت، فما الذي يمكن لمنطقتنا أن تحققه. إن السعادة أكثر من مجرد كلمة يتغنى بها، إنها حالة تحتاج إلى سعي دؤوب.
Andrew H. Walker/Getty Images/AFP