في 30 يونيو قام وزير خارجية لبنان جبران باسيل، مسيحي الديانة، بجولة في جبل لبنان معقل الدروز يرافقه صالح الغريب، وزير الدولة لشؤون اللاجئين والدروز. ومن المعروف ان تاريخ الدروز والمسيحيين بجبل لبنان اتسم بالوحشية. ابان الحرب الاهلية 1975-1990 شهدت المنطقة حربا ضروسا انتهت بطرد غالبية الأقلية المسيحية. مع وصول موكب الغريب إلى قبرشمون أو بساتين، لا يزال الموقع مثار خلاف، نشب نزاع مخلفا قتيلين يكتنف الغموض هويتهما: ان كانا مسؤولين رسميين في صحبة السياسيين أو اهل البلدة الذين اعترضوا على وجودهم.
وذكرت التغطية الصحفية المحلية أن الحادث هو معركة بين عائلتين سياسيتين- حيث يطمح باسيل ان يخلف والد زوجته، ميشال عون، كرئيس للبنان بينما يسعى بطريرك الدروز وليد جنبلاط الى ضمان الخلافة لابنه تيمور. خصومة الغريب لجنبلاط الذي تؤيده قرى جبل لبنان معلومة للجميع. ولكن هذا التفسير هو تبسيط للأمور. فالأرجح أن الحادث كان جزءًا من صراع إقليمي أكبر.
عندما اندلعت الحرب في سوريا عام 2011 كان على الرئيس بشار الأسد سحب القوة البشرية من جنوب سوريا المتاخمة للحدود اللبنانية.وفي هذا الفراغ صعد حزب الله اللبناني وانصاره الإيرانيين الذين شرعوا- في اعقاب طرد فصائل المعارضة السورية المسلحة، وسيطرتهم علىجنوب غرب سوريا، وهي المنطقة الأقرب إلى إسرائيل، في بناء البنية التحتية العسكرية بها بنية ان يحل الجنوب السوري محل الجنوب اللبناني -الجبهة الامامية المتجمدة منذ 2006- كمسرح للحرب ضد إسرائيل.
الاقوال أسهل من الأفعال. كبداية، هاجم سلاح الجو الإسرائيلي كافة أصول إيران وحزب الله في الجنوب السوري. ثانيا من اجل استنساخ إيران تجربة جنوب لبنان فإنها في حاجة الى أصدقاء من السكان المحليين. وقد عانى الجنوب السوري معقل السنة الويلات على يد حزب الله وشيعة إيران. ومن ثم فهناك بديلاً واحدًا متاحًا – الدروز المنتشرين في جميع أنحاء لبنان وجنوب سوريا وشمال إسرائيل ويقودهم منذ القرن الثامن عشر عشيرة جنبلاط.
شانها شان كافة الأقليات، طور الدروز من توجهاتهمعلى مدى الألفية الماضية اذ انهم يبايعون الرجل او الحزب الأقوى. وعندما يتنافس طرفان متساويان في القوة على السيادة وليست هناك مؤشرات لفوز ايهما، يظل الدروز على الحياد ويقبعون في قراهم، ويبقون المتطفلين بعيدًا في محاولة للحفاظ على حيادهم. ظل جنبلاط على الحياد منذ تخليه عن تحالف 14 آذار المناهض لحزب الله في أيار2008. وعلى الرغم من معارضته الصريحة للأسد فانه بذل قصارى جهده لإبعاد الدروز عن اتون الحرب في سوريا.
بيد ان إيران وحزب الله يريان ان سياسة جنبلاط عقبة في طريق طموحاتهما. ولكي ينجح مشروع بنيتهما التحتية العسكرية في الجنوب السوري عليهما دفع الدروز للانضمام الى “تحالف الأقليات” الذي يضم الشيعة والعلويين ومسيحيي لبنان وسوريا. منذ أن رفض جنبلاط التزحزح عن موقفه، حاول حزب الله جاهدا إزاحته، عن طريق تقويض قيادته للدروز في لبنان وسوريا ودعم خصومه.
في لبنان، أشرف حزب الله على إعادة بناء الدولة تحت رعاية باسيل ورئيس الوزراء سعد الحريري، سني المذهب. وحرم الثنائي جنبلاط من موارد الدولة التي يحتاجها للحفاظ على شبكة الموالين فضلا عن دابهما على مضايقة اتباعه وموظفيه المدنيين وتقديمهم للمحاكمة بتهم وهمية. وفي تلك الاثناء كافا حزب الله وحلفائه معارضي جنبلاط من الدروز بسخاء ومقعد في البرلمان بينما كان يحاول- ولكنه أخفق في- هز شعبيته الكاسحة بين الدروز التي عكستها انتخابات 2018.
كما استخدم حزب الله سمير قنطار الدرزي الذي سجن في السجون الإسرائيلية لمدة ثلاثة عقود وحصل على حريته في تبادل للسجناء بين حزب الله وإسرائيل في 2006 وارسله الى جنوب سوريا لاستمالة الدروز الى جانب إيران الا انه قتل في ضربة جوية إسرائيلية.
في جنوب سوريا، طاردت إيران الدروز الذين يصرون على الحياد، واغتالت النشطاء والقادة، مثل الشيخ وليد بألوس في عام. 2015. وفي 2018 في اعقاب انسحاب الأسد من مواقع بالجنوب اختطفت داعش 14 امرأة درزية. وبينما لا تتوافر الأدلة لإثبات مزاعم الدروز بالتواطؤ بين النظام السوري وداعش فانه لا يمكن تجاهل تسلسل الاحداث: فقد انسحب الأسد تاركا الطريق ممهدا للإرهابيين كما انه لا يمكن انكار ان الأسد قد رفض حماية الدروز ما لم يتعهدوا بتقديم الدعم له وارسال رجالهم للتجنيد في جيشه.
والمواجهة الحقيقية التي حدثت قبل بضعة أيام في احدى قرى جبل لبنان كانت بين إيران التي تريد الدروز بجانبهافي اطار تحالف الأقليات بقيادة إيران وجنبلاط الذي يقف لها بالمرصاد.يمكن تحليل هذه المواجهات باعتبارها سياسة لبنانية داخلية، لكنها بالتأكيد أكثر من ذلك بكثير.
حسين عبد الحسين هو رئيس مكتبصحيفة الرأي الكويتية اليومية بواشنطن وزميل زائر سابق في تشاتام هاوس في لندن