مرَّت أسابيع، ولا يزال الغموض يحجب ما جرى بالضبط في جبال لبنان في نهاية يونيو فأدى إلى مصرع اثنين من حراس الأمن. ما يتضح للعيان أن الحادث قد جمّد جميع الأعمال السياسية في لبنان، وأغرق البلاد في أزمة سياسية.

الحقائق الخالصة هي ما يلي: كان من المقرر أن يقوم وزير الخارجية اللبناني المثير للجدل، جبران باسيل، صاحب الديانة المسيحية، بزيارة معقل للدروز في البساتين، وهي بلدة في جبال الشوف. تراجع باسيل عن قراره تحت الضغط، وذهب بدلًا منه وزير درزي شاب هو صالح الغريب. ولا يزال الغموض محيطًا بالظروف وتسلسلها؛ لكن قتالًا بالأسلحة النارية قد نشب في مرحلة ما، وقُتِل اثنان من الحراس الشخصيين.

كلا السياسييْن وحزباهما حلفاء لحزب الله، وجميعهم صوَّر الأمر على أنه محاولة اغتيال تستهدف الغريب أو باسيل (زاعمين أن المعتدين ظنوا بأن السياسي المُستهدف كان في الموكب). وجَّه كلا الطرفين أصابع الاتهام إلى الزعيم الدرزي وليد جنبلاط. وبينما يتجادلان حول الجهة المسؤولة عن الحادث، وكيفية تقديم الجناة للمحاكمة، انتهى بحث الحكومة اللبنانية إلى طريق مسدود، ولم يعُد رئيس الوزراء قادرًا على إدارة الموقف. استمرت الأزمة طوال 40 يومًا، حتى عاودت الحكومة الاجتماع أخيرًا خلال عطلة الأسبوع الماضي.

لا شك أن الأحداث الجارية خلال الأسابيع الستة الماضية تكشف عن القوى المحركة للأحداث السياسية حاليًا داخل لبنان. أصبحت التحالفات والخصومات والمؤيدين من الخارج معلومةً للجميع. غير أن تلك العناصر تقدم أيضًا لمحة عن شيء أكبر وأكثر إزعاجًا؛ هو الكيفية التي ينوى نظام الأسد من خلالها حفظ النظام في جارته الصغرى بمجرد انتهاء الحرب الأهلية في سوريا، وكيف يخطط لفعل ذلك دون اللجوء إلى التأثير أو العنف الصريح. وبعد استخدام نظام الأسد قبضة حديدية للسيطرة على سوريا، فإنه يجرب استخدام قوة ناعمة للتعامل مع المسألة اللبنانية.

ينقسم البرلمان والحكومة اللبنانييْن إلى فريقين شبه متساويين، بين المؤيدين لحزب الله والمعارضين له، ومن ثمّ بين المؤيدين لنظام الأسد والمعارضين له. أحد الأهداف الأولية لنظام الأسد هو قَلب الموازين بصورة حاسمة لصالحه وصالح حزب الله. فيما مضى، كان من الممكن تحقيق ذلك بالقوة؛ حيث تورَّط النظام في اغتيال عدد من الأصوات المعادية لسوريا في مطلع القرن الحادي والعشرين. لكن، بعد رحيل القوات السورية من لبنان في 2005، وفي ظل استنزاف الحرب الأهلية للموارد السياسية في سوريا حاليًا، يرمي النظام السوري إلى ممارسة شكل مختلف من أشكال السيطرة.

استراتيجية النظام السوري لها شقان، هما استغلال الانقسامات الطائفية بلا رحمة، وطحن خصومه وخصوم حزب الله بين تروس المؤسسات اللبنانية المُسيَّسة بشدة. وبالنظر إلى التاريخ اللبناني، فيُحتمل أن يؤدي الشق الأول إلى اشتعال الأحداث، غير أن حلفاء حزب الله لم يلتفتوا إلى هذا الشق بالقدر الكافي. خلال الحرب الأهلية، طردت قوات الدروز التابعة لجنبلاط المسيحيين اللبنانيين من الجبال تحت تهديد السلاح، وهو الأمر الذي شجبه “باسيل”، كرجل مسيحي، أمام الرأي العام.

بالنسبة لحزب الله، أصبحت إزاحة جنبلاط عن منصبه من أولوياته. يأمل الحزب في إنهاء هيمنة جنبلاط على المجتمع الدرزي، وزيادة عدد المؤيدين للمعسكر السوري داخل البرلمان اللبناني، من خلال الترويج للحزب الديمقراطي اللبناني الذي ينتمي له الوزير الدرزي صالح الغريب كمركز قوى بديل. في 2005 تدهورت علاقة جنبلاط مع دمشق، والتي كانت يومًا علاقة وثيقة، وأصبح جنبلاط الآن منتقدًا بحماس للتدخل السوري في بلاده. لكن إثارة رياح الصراع الدرزي المهلك أمر خطير. حملت فصائل القوى المتنافسة في المجتمع السلاح ضد بعضها بعضًا فيما مضى، وقد يجترّ الصراع فيما بين الدروز جماعات دينية أخرى إلى أتونه بسهولة.

الخطأ الذي اقترفه جنبلاط هو إثارة الرأي العام ضد احتفاظ حزب الله بأسلحته؛ والحزب هو الجماعة الرئيسية الوحيدة التي تمتلك سلاحها الخاص خارج سيطرة الدولة اللبنانية. الأسلحة خط أحمر لكلٍ من حزب الله ودمشق، فبدونها يفقد حزب الله جزءًا هائلًا من نفوذه السياسي المحلي كجيش ردع ضد الهجوم الإسرائيلي، وتشعر دمشق بأنها أقل أمانًا. دعونا لا ننسَ الدور الأساسي الذي لعبه حزب الله في إنقاذ نظام الأسد في الأيام الأولى للانتفاضة السورية.

الشق الثاني من الاستراتيجية يتمثل في استخدام مؤسسات لبنان. يبدو أن سبب الأزمة التي دامت 40 يومًا هو الإشكالية القانونية المتعلقة إذا كان هجوم 30 يونيو جريمة “عادية” تنتظر تحقيق المحاكم فيها، أم هجومًا على وزير حكومي بما يجعله جريمة تتعلق بأمن الدولة ويضعه ضمن اختصاص المجلس القضائي، وهو أعلى محكمة في لبنان. كان باسيل وحلفاؤه يضغطون كي يحيلوا الأمر إلى المجلس القضائي، حيث لا يمكن تحديد محطّ الإدانة السياسية في الأمر إلا عبر إجراء تحقيق على هذا المستوى؛ وفي ذلك تهديد مباشر لجنبلاط. تراجع المعسكر المؤيد لسوريا في النهاية، وكان القرار المخادع بأن تخضع المسألة للتحقيق في ساحات المحاكم، ثم يتخذ مجلس الوزراء قراره بشأن اتخاذ المزيد من الإجراءات.

أظهر المعسكر المؤيد لسوريا، بقيادة حزب الله والتيار الوطني الحر الذي يرأسه باسيل، أنه لا يخشى حدوث ركود سياسي لا نهائي في لبنان. وفي الواقع، هناك جزء من التهديد الضمني خلال الأزمة هو قدرة حزب الله على إقناع أكثر من ثلث أعضاء الحكومة بالاستقالة، بما يؤدي إلى انهيار الحكومة. وفي إطار سعي المعسكر الموالي لسوريا إلى الهيمنة السياسية، فإنه سعيد لتحوُّل الحياة السياسية ذاتها إلى ضحية للحادث.

حادثة البساتين قد انتهت في الوقت الراهن؛ لكن ما تسبب في وقوعها هو تماس بين ثلاث قضايا سياسية من غير المرجح اختفاؤها. أولاها هي رغبة باسيل الصارخة في خلافة والد زوجته، ميشال عون، كرئيس للبنان، ربما في وقت قريب مثل الانتخابات القادمة المقرر إجراؤها في 2022. القضية الثانية هي رغبة حزب الله في حماية أسلحته، وتكريس تلك الحماية في القانون اللبناني. أما ثالثة القضايا فهي رغبة دمشق في إقامة علاقات أكثر طبيعيةً مع بيروت بينما تشارف الحرب الأهلية السورية على الانتهاء؛ وهو تطبيع يمكن تحقيقه بأقصى سهولة ممكنة في ظل رئاسة باسيل.

لا تزال تلك الجوانب قائمة، مع حضور قليل من الشك في أن يسعى محور دمشق وحزب الله إلى إشعال أزمة سياسية جديدة قبل الانتخابات القادمة. قد تكون استراتيجية دمشق الجديدة ألطف مما كانت عليه في الماضي، لكنها ستستمر في استنزاف الدماء.

يؤلف فيصل اليافعي حاليًا كتابًا عن الشرق الأوسط، وهو معلق دائم في الشبكات الإخبارية التليفزيونية الدولية. عمِل اليافعي في منابر إخبارية من قبيل صحيفة “الغارديان” وهيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، فأعدّ التقارير عن الأوضاع في مناطق الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وآسيا وإفريقيا.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: