قبل أن يحرر اكتشاف النفط شعوب الخليج العربي من استبداد الحياة على أسس هشة لا توفر سوى الاحتياجات الأولية، والذي تحملته تلك الشعوب على مدار أجيال لا حصر لها، كان حيوان الأطوم مُستهدفًا دون حرج. أوضح بحث تفصيلي نُشِر في مجلة “علم الحيوان في الشرق الأوسط” عام 2017 أن تلك الثدييات البحرية الضخمة، القابلة للتعلم والآكلة للعشب، لعبت دورًا محوريًا في دورة الحياة الموسمية جعل الحياة في البيئة الصحراوية القاحلة أمرًا ممكنًا. وأشار مؤلفو البحث، المنتمون إلى معهد المحيطات والثروة السمكية بجامعة كولومبيا البريطانية، إلى أن قبائل صيادي الأطوم “ربما تكون قد قتلت المئات من حيوانات الأطوم سنويًا” قبل اكتشاف النفط في منطقة الخليج العربي.

تلك كانت تجارة دموية. كان من المعتاد رعاية قطعان من تلك الحيوانات في المياه الضحلة ثم ضربها بالهراوات حتى الموت؛ غير أن ذلك لم يكن لغرض رياضي. لقد مثَّل حيوان الأطوم بالنسبة للصيادين مصدرًا حيويًا للحم والدهن والجلد والزيت. يوفر حيوان الأطوم الواحد، الذي يصل وزنه إلى 300 كيلوغرام قدرًا من الزيت يصل إلى 56 لترًا “يُستخدم في الطهي وكوقود للمصابيح وللأغراض الطبية وكذلك كمادة مانعة للتسرب في القوارب الخشبية”. يؤكل لحم الأطوم، أو يتم تجفيفه والإتجار فيه، وحتى نخاع عظامه وذيله يتم استهلاكه. كان جلده يُستخدم في صنع الأحذية ومقابض السيوف، كما تُصنَع أغراض أخرى من أنيابه. بعبارة أخرى، لا يكاد يوجد جزء من الأطوم عديم الفائدة للإنسان.

ضَع هذه المعلومات في مواجهة الاكتشاف الأخير للعديد من جثث الحيوانات التي جرفتها الأمواج على الشواطئ بطول الساحل الإماراتي. الأطوم لا يستطيع التنفس تحت المياه، ولا بد له أن يصعد إلى السطح كل خمس أو ست دقائق لاستنشاق الهواء. يتم الإيقاع بحيوانات الأطوم وإغراقها في شباك صيد غير قانونية لا رقابة عليها، حتى وصل إجمالي عدد حيوانات الأطوم التي عُثِر عليها ميتة إلى 20 جثة في الإمارات خلال هذا العام وحده، ويتم العثور على المزيد والمزيد منها ميتًا كل عام.

لم تعُد حيوانات الأطوم تتعرض للاصطياد، سواءً لأغراض أكلها أو لأي غرض آخر، على الأقل في المياه التابعة لدولة الإمارات التي أقرَّت قانونًا لحماية الحيوانات في 1999. رغم ذلك، لا تزال تلك الحيوانات تموت ولا تزال أعدادها في تناقص مستمر.

ضَع تلك المعلومات مرةً أخري في مواجهة القرون التي جرى فيها اصطياد الأطوم على أيدي رجال القبائل، بصورة وثيقة الصلة بإيقاعات الحياة والطبيعة، حيث مثَّل لهم ذلك الحيوان ثروةً طبيعية يمكن استغلالها على نحو مُستدام. أعداء الأطوم اليوم في الخليج العربي ليسوا رجالًا يستقلون القوارب قابضين بأيديهم على هراوات، بل هم التنمية المتواصلة والتلوث النفطي وممارسات الصيد المكثفة المفتقرة إلى الضبط، وهي عناصر تدمر أحواض الأعشاب البحرية تحت سطح الماء – والتي تعتمد عليها تلك الحيوانات في بقائها – ومن ثمّ توقِع بكائن حي تلو الآخر دون مبالاة في شباك تُلقى دون دراية بخطورتها أو رقابة عليها. يبدو أن هذا العدو الحديث قاتل أكثر فاعليةً من صيادي الزمن البائد.

تتوزع حيوانات الأطوم حول العالم، وتواجه تحديات في كثير من مواطنها. ورغم أن ما تبقي من أعدادها في منطقة الخليج يُقدَّر بحوالي 7300 أطوم، إلا أن الخليج يظل موطنًا لثاني أكبر تجمع لها في العالم بعد أستراليا. لكن علماء الأحياء البحرية يعتقدون أن أعداد حيوان الأطوم في المنطقة قد تقلصت بنسبة كبرى تصل إلى 25 بالمئة منذ توقف الصيد وانطلاق الطفرة النفطية في خمسينيات القرن الماضي.

الإمارات، بما وهبها الله من حقول شاسعة للأعشاب البحرية قبالة شواطئ دبي وأبو ظبي، تُعدّ موطنًا لأغلبية حيوانات الأطوم في مياه الخليج، وقد فعلت الكثير من أجل حماية هذه الحيوانات. في 2007، أنشأت الدولة محمية المروة، والتي تُعدّ أول محمية تصممها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) للمحيط الحيوي البحري في العالم. أقيمت المحمية على مساحة 4255 كيلومتر مربع، وتضم العديد من الجزر إلى جانب 120 كيلومترًا من الساحل، مع العديد من المواطن ذات الأهمية الإقليمية التي تشمل أحواض الأعشاب البحرية والشعب المرجانية وأشجار المانغروف.

تكمن المشكلة في أن حيوان الأطوم، كمثل سائر الحيوانات البرية، لا يعرف ما هو أفضل بالنسبة له، فيذهب حيث يسحبه المد والجزر. وفي مياه الخليج العربي، ليست تلك الحيوانات ببعيدة عن حركة السفن وإنتاج النفط والصيد والتنمية الساحلية المتواصلة. وكما يشير الباحثون، وأحدهم من الكويت، فثمّة وفرة من الأعشاب البحرية قبالة شواطئ الكويت والعراق وأجزاء من إيران، ويوضحون أنه – رغم ذلك – “لا توجد أية تقارير تشير إلى وجود تجمعات لحيوان الأطوم في تلك المناطق منذ خمسينيات القرن الماضي”.

هنالك نقص في التعاون المشترك للحفاظ على النوع، ليس فيما بين إيران وبقية الدول الواقعة على الخليج العربي فحسب، بل فيما بين دول مجلس التعاون الخليجي ذاتها. هذا يمثِّل خطرًا على الأطوم؛ لكنه يرمز كذلك إلى نقص التفكير البيئي المشترك فيما بين دول المجلس يؤدي إلى تدمير البيئة البحرية للخليج، ويهدد الأنواع العديدة النادرة والمهددة بالانقراض الموجودة في مياهه.

يصرِّح البشر بحبهم للأطوم، وإن وُجِد حيوان يستحق أن يحمل لقب “الفاتن” فذاك هو. في الشهر الماضي، عمّ الجنون وسائل التواصل الاجتماعي ببساطة تجاه عِجل أطوم صغير في تايلاند، كان قد تاه عن أمه وألحق نفسه بمجموعة من البشر تولوا إنقاذه. طافت صور ذلك الحيوان، الذي أُطلق عليه اسم “مريوم”، أرجاء العالم بينما يعانق منقذيه وأخري ويشرب الحليب من زجاجة أحد الأطفال. لكن نهاية القصة كانت محبِطة، حيث عُثِر على “مريوم” نافقًا بعد ذلك ببضعة أسابيع، وقد بدا أن التلوث البلاستيكي قد قتله حين التهم مكوِّنًا بلاستيكيًا.

لا يكفي مجرد وصف الحيوانات بأنها ” لطيفة”، والتغزل بها في موجة غاضبة من تغريدات “تويتر” على مدار 24 ساعة. مصير حيوانات الأطوم، وجميع الحيوانات المُعرَّضة للخطر في منطقة الخليج وحول العالم، لا تحدده علامات الإعجاب على المنشورات الافتراضية؛ بل يحدده تحرك الإنسان أو امتناعه عن التحرك.

لا شك أن التنمية الاقتصادية أمر جوهري لأي أمة، وكذلك ازدهار صناعة صيد الأسماك؛ وبالأخص في ذاك الجزء من العالم حيث ظروف مناخية تستحيل معها زراعة المحاصيل أو تربية الماشية. لكن مثل هذا الأمر لا يمكن – بل ويُحظَر – أن يخفى على فطنة تلك الأمم الخليجية، التي استغلت براعتها فقطعت شوطًا طويلًا خلال هذه المدة الزمنية القصيرة في حماية هذا النوع من الحيوانات ذات الدلالة الرمزية التي ترتكز عليها البيئة البحرية.

لن يؤدي اختفاء حيوان الأطوم إلى مجرد تقويض نظام بيئي هش يتعرض بالفعل لضغوط كبيرة؛ فمن شأنه أيضًا أن يمثِّل إدانة مخزية لعالم حديث يواجه خطر نسيان الدروس المُستفادة من تراث تاريخي يزعم احترامه.

“جوناثان غورنال” صحفي بريطاني سابق بجريدة “التايمز”، عاش وعمِل بمنطقة الشرق الأوسط، وهو مستقر حاليًا بالمملكة المتحدة.

 

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: