اندفع المتظاهرون إلى شوارع العراق، بسبب حالة الغضب التي انتابتهم جراء الفساد والبطالة وانهيار الخدمات العامة، وأطلقت قوات الأمن الرصاص الحي على المتظاهرين، مما أسفر عن مقتل عدد منهم، ووعد رئيس الوزراء العراقي بإجراء تحقيق في تلك الأحداث، كما صدرت دعوات من منظمة الأمم المتحدة بضبط النفس.

والواقع أن المشهد الذي تحدثنا عنه في الفقرة السابقة، لم يحدث خلال هذا الاسبوع في بغداد، وإنما حدث في مدينة البصرة في صيف العام 2018، وحينها اجتاحت مظاهرات عارمة شوارع المدينة الساحلية التي تقع جنوبي العراق، وبعدها بعام؛ بات للعراق مجلس وزراء ورئيس وزراء جديدين – حتى أن العراق بات لديه مبعوث خاص جديد للأمم المتحدة – لكن الوضع ظل كما هو عليه. وتلك الجولة الأخيرة من المظاهرات، والتي دخلت أسبوعها الثاني، هي مظاهرات ضخمة للغاية، كما يمكننا القول بشكل حاسم، أن تلك المظاهرات لا قائد لها، كما أنها لم تستجب للضغوط السياسية.

وقد صارع كبار قادة الساحة السياسية العراقية لأجل أن يكون لهم رد فعل واضح، وفي تعليق له عبر التلفاز على ما جرى يوم السبت، طغت لغة الاسترضاء على كلمة رئيس الوزراء، الذي وصف المتظاهرين ب”الإخوة”، كما أمر بتوفير مساكن مُدعّمة وقروض للشباب، ولم تُسفِر تلك الإجراءات عن تهدئة الوضع، حتى أن مقتدى الصدر قائد أكبر الكتل البرلمانية (سائرون)، وهو الشخص الذي حصل على مكاسب سياسية خلال انتخابات العام الماضي، والتي جاءت بالاستفادة من المظاهرات التي شهدها العراق في صيف العام 2018، بدا مُندهِشًا من الاحتجاجات الأخيرة.

وأخيرًا فقد دعا مقتدى الصدر، رئيس الوزراء للاستقالة، لكن الواقع أن إجراء انتخابات جديدة لن يكون حلًا مُناسِبًا، ولن يظهر إلى الساحة ساسة جدد، وقد أسفرت فترة ما بعد احتجاجات البصرة العام الماضي عن كلا العنصرين، انتخابات جديدة وساسة جدد، لكن هذا لم يُسفِر عن تغيير حقيقي.

وبالمعنى الحقيقي للكلمة، فقد أفلتت تلك الاحتجاجات من بين يدي الساسة، وبات الفساد يتم بصورة مؤسسية، وأصبحت السياسة العراقية تعتمد على الصفقات التي تتم في الخفاء، ولم يعد هناك من حل سوى وجود حزب سياسي يملك تفويضًا قويًا كي يتمكن من اتخاذ خطوات التغيير الضرورية، لكن المنظومة السياسية العراقية لم تكن لتسمح لمسألة “التفويض القوي” تحديدًا لأن تكون ذات فاعلية، وهنا تكمن المعضلة: فالمحتجون لم يطالبوا بتنازلات يمكن للساسة أو المنظومة السياسية أن تضمنها، وباتت المعضلة في العراق تتمثّل في المنظومة السياسية ذاتها، ومن ثم فقد أراد المحتجون التخلص منها.

وكان هدف النظام السياسي الذي تم العمل به في العراق عقب الغزو في العام 2003، من أجل توزيع السُلطة وعدم تركيزها في يد شخص واحد – خاصة من أجل معالجة عيوب حقبة صدام حسين التي كان العراق يعاني فيها من السلطوية والتأسيس لحكم الفرد – الا انه بدلًا من ذلك قام بترسيخ الطائفية في البلاد، وهو نظام يعتمد على المحاصصة، حيث تم تخصيص الوزارات بناء على عوامل طائفية، مما أدى إلى فتح الطريق أمام ما يُطلق عليهم ساسة الباب الدوار أو الحلقة المفرغة، حيث أصبح ولاء هؤلاء الساسة، للتيارات السياسية ذي الخلفية الطائفية، التي أتت بهم إلى السُلطة.

وخلال حقبة ما بعد الغزو الأمريكي للعراق، أشار المنتقدون إلى أن تأسيس منظومة مبنية على العرقية والطائفية مثل لبنان؛ من شأنه أن يؤسس إما لوجود حكومات ضعيفة على الدوام، أو لحالة شلل تصيب الحياة السياسية، وفي العراق فقد أسفر الوضع عن كلا الأمرين، لكن في العراق، تم رؤية هذا المشهد على أنه ثمن يجب تسديده، من أجل تصحيح أخطاء حقبة صدام حسين، وأهم تلك الأخطاء هو الهيمنة المُطلقة للسُنّة على حساب الأغلبية الشيعية والأكراد.

وفي ضربة للميليشيات المدعومة من إيران؛ اتهم المتحدث باسم الحكومة العراقية “أيادِ شريرة” بقتل المتظاهرين، وأنه من المبالغة وعدم المنطقية معاملة تلك الاحتجاجات على أن لها دوافع سياسية. والواقع أن الاحتجاجات العراقية لا تختلف كثيرًا عن مثيلاتها على مستوى العالم، والتي يطالب فيها المتظاهرون بتوفير الوظائف والحصول على أجور مُناسِبة، وقد بلغت نسبة الشباب العراقيين العاطلين عن العمل، حوالي 20% ممن تقل أعمارهم عن 25 عامًا، كما أن هناك الكثير من الشباب يعملون في وظائف يقل مستواها عن التعليم الذي حصلوا عليه.

والفرق يكمن في أن العراق، الذي بات دولة ممزقة بسبب الغزو الذي تم في العام 2003 والقتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، قد انطلق مجددًا من قاعدة أقل استقرارًا، وباتت المنظومة السياسية مُصمِمة على تحقيق الاستقرار في وجه التهديدات السياسية، حتى لو تم ذلك على حساب العملية السياسية برمتها، ولو نظرنا لحجم تلك الاحتجاجات بشكل عام، سنجد أن العقلية التي تدير العملية السياسية في العراق باتت لا يمكن الدفاع عنها، والاحتجاجات الأخيرة ما هي إلا استمرار لتلك التي اندلعت في العام 2015، واستمرت من حينها عامًا بعد عام، وغالبًا ما تندلع تلك الاحتجاجات في الصيف، وذلك بسبب نقص الخدمات العامة، مثل الماء النظيف، والكهرباء اللازمة لتشغيل أجهزة التكييف، مما جعل الأمور تصل لحد الأزمة.

وخلال العام الحالي، كانت الشرارة التي أشعلت الاحتجاجات السياسية بامتياز، فقد تم فصل الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي من منصبه كقائد لقوات مكافحة الإرهاب، وهو من قاد القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وكانت هناك ادعاءات أن القرار جاء بإيعاز من جماعات موالية لإيران. لكن تلك الاحتجاجات أثبتت أنها غير متوافقة مع سياسات الأحزاب، والدليل هو الهجمات التي استهدفت مقرات الأحزاب كل على حدة.

والواقع، أن دوافع تلك الاحتجاجات إن كانت سياسية، ستكون هناك احتمالية للتغيير. وفي أعقاب الانتخابات البرلمانية التي جرت في مايو من العام الماضي، استغرق الأمر 7 أشهُر من الجدال لأجل الوصول لتوازن بين القوى الإثنية والطائفية، لتشكيل مجلس وزراء، لا زال مُصابًا بالشلل وعاجزًا عن اتخاذ القرارات.

وتلك هي المعضلة الرئيسية، التي تواجه المنظومة العراقية، والتي وقف رئيس الوزراء عادل عبد المهدي عاجزًا أمامها، وقد أشار الأسبوع الماضي، إلى أنه على استعداد للقاء المحتجين والاستماع إليهم “لساعات”، لكن حتى لو التقى رئيس الوزراء بالمحتجين، سوف يسمع منهم ما لا يرضيه، كما أنه لن يستطيع الوفاء بمطالبهم، وما يريده هؤلاء هو إصلاح شامل للنظام السياسي، بينما ما يستطيع رئيس الوزراء تقديمه بشكل واقعي، هو القليل من التغيير.

وفي فرنسا، هناك حركة السترات الصفراء، وهي شكل آخر من أشكال الحركات الاحتجاجية الواسعة النطاق، التي لا قائد لها، وقد بدأت تلك الحركة بغرض تحقيق أهداف محددة، لكنها بعد ذلك أضافت الكثير من المطالب للقائمة، تلك المطالب التي يعجز النظام السياسي الفرنسي عن الاستجابة لها. وتمامًا مثل المحتجين في العراق، فإن أصحاب السترات الصفراء أرادوا أيضًا تغيير النظام السياسي، والمأزق الذي وقعت فيه الحكومة العراقية لا يقل عن نظيره في فرنسا: مواجهة حركة احتجاجية لها مطالب كبرى، حركة منتشرة بشدة على نطاق واسع، والحكومة العراقية لا تستطيع الوفاء بتلك المطالب، إما لأنها لا تملك الأدوات أو لا تملك القدرة على تنفيذ تلك المطالب.

والواقع أن المحتجين باتوا أمام خيارين: الاستمرار أو التوقف، والاستمرار معناه الحصول على مطالبهم بالتغيير وبشكل تام، وهو ما سيبغضه الكثير داخل العراق وخارجه، لأنهم مستفيدون من النظام السياسي العراقي بصورته الحالية، لكن توقف المحتجين يعني تصدير الإحباط لهم، وذلك يعني أنهم سيعيشون على أمل استئناف المعركة في يوم آخر، أو ربما العام القادم.

يقوم فيصل اليافعي حالياً بتأليف كتاب حول الشرق الأوسط، كما أنه يظهر كمعلق بشكل متكرر على شبكات التليفزيون الإخبارية الدولية، وقد عمل بالعديد من وسائل الإعلام المعنية بالأخبار مثل غارديان و”بي بي سي” وعمل مراسلاً بالشرق الأوسط وشرق أوروبا بالإضافة إلى آسيا وإفريقيا.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: