اتضح أن فرض ضريبة شهرية بقيمة “6” دولار أمريكي على المكالمات عبر تطبيقواتس آبهي الشرارة التي أشعلت ثورة ضد المؤسسة اللبنانية الحاكمة. ومنذ منتصف شهر أكتوبر، خرج الآلاف إلى الشوارع في جميع أنحاء البلاد، وكانت مدينة طرابلس في الشمال هي المحرك لتلك المظاهرات. وكان الرجال والنساء يرقصون في الشوارع على أنغامدي جي” – في مدينة كانت توصف ذات يوم بأنها مركز للإسلاميين المتطرفين. وبينما أعلن رئيس الوزراء، سعد الحريري، يوم الثلاثاء عن حزمةإصلاحاتلحث الناس على العودة إلى ديارهم، فمازالت الاحتجاجات مستمرة.

وأصابت الانتفاضة اللبنانية الدولة والأقلية الحاكمة بالارتباك والحيرة. وأمضت الحكومة الأشهر الستة الماضية في مناقشة ميزانية التقشف التي كانت ستشهد زيادة في الضرائب، وتخفيض الرواتب الحكومية، وتقليص برامج الرعاية الاجتماعية. وفي ظل الركود الاقتصادي، والذي يعود بشكل أساسي إلى المغامرات العسكرية التي لا تنتهيلـحركةحزب الله الإسلامي، فإن البنك المركزي في البلاد ينفد سريعًا من الاحتياطيات النقدية الأجنبية. وشهدت الليرة اللبنانية تجربة قاسية من حيث انخفاض قيمتها، وظهر نظامين لسعر صرف العملاتنظام رسميوالآخر في السوق السوداءوهو دلالة على الوضع في الجمهورية غيرة المستقرة سياسيًا.

لقد اتخذت الاحتجاجات مظاهر غير مسبوقة. ففي بلد مقسم على أسس طائفية، ويحظى كل زعيم طائفة بولاء جماعته، فإن مشهد الاحتجاجات الضخمة لا يحدث عادة إلا بموافقة هؤلاء الزعماء. وفي هذه المرة، يشارك في حكومةالوحدة الوطنيةممثل عن كل طائفة، ولم يأمر أي زعيم أحدًا من مؤيديه بالمشاركة في المظاهرات. وهذا يجعل الاحتجاجات مناهضة للطائفية وبلا قيادة.

وبسبب الابتعاد عن الطائفية بجميع أشكالها، اكتسبت تلك الاحتجاجات مصداقية، وأساسًا أخلاقيًا ساميًا، لدرجة أن حزب الله، والذي نشر الشبيحة في بادئ الاحتجاجات لضرب المتظاهرين في بيروت، انتهى به المطاف إلى التخلص من رجاله الشبيحة، والذين لاحقهم الجيش وألقى القبض عليهم.

ومع ذلك، تبين أن ثمة عيب في كون الانتفاضة بلا قيادة. وباستثناء تعبيرهم عن الإحباط الذي أصابهم، لم يتمكن المتظاهرون من الإعلان عن طلبات محددة، والتي قد تكون بمثابة هدف نهائي معقول. وبالطبع، فإن ما يحتاجه لبنان هو أمرٌ في غاية الأهمية، لدرجة أنه يصعب علىالشارعتخيل ماهية هذا الأمر.

وخوفًا من الإعلان عن مطالب قد تبدو سياسية، أو التي قد تغير الثقل السياسي لصالح واحد أو أكثر من الأقلية الحاكمة على حساب الآخرين، اقتصرت مطالب المتظاهرين على محاربة فساد الدولة، بما في ذلك، المطالبة باسترداد الأموال العامة المختلسة. ورغم أهمية تلك المطالب، فلا يمكن لها وحدها إصلاح الاقتصاد اللبناني. وبدون تغيير جوهري في الخطط المحلية للبلاد، والذي من شأنه أن يحدث تغييرا في اتجاه سياستها الخارجية، لا يمكن للبنان أن يترقب حدوث أي تحسن. وفي الواقع، ترجع المشاكل المالية للبلاد إلى مشاكلها السياسية، وليس الخلل في الاقتصاد الكلي.

وفي عام 2018، بلغت نفقات الدولة 16 مليار دولار أمريكي، وبلغت العائدات “12,5” مليار دولار أمريكي، وهنا ظهر عجز مالي قدره “28%”. وعلاوة على ذلك، تستهلك خدمة الديون 35٪ من النفقات. ويشير كل هذا، أولاً، إلى أن الدولة منافس هائل مع القطاع الخاص من حيث البحث عن الموارد المالية. وثانياً، يذهب جزء كبير من الأموال التي تقترضها الدولة إلى سداد الديون التي تكبدتها في السنوات السابقة. بمعنى آخر، فإن الحكومة تعتمد علىبطاقة الائتمانالخاصة بها. وبالطبع، هناك جزء كبير من تلك الأموال في شكل مساعداتوحتى الآن، تأمل بيروت في الحصول على 11 مليار دولار أمريكي في شكل تعهداتوالتي يُعتقد أنها مزيج من المساعدات والقروضمن المانحين الغربيين. وبطريقة أو بأخرى، لن تحصل الشركات الناشئة أو صغار المبتكرين إلا على الفتات.

وعندما عرض رئيس الوزراء هذا الأسبوع إجراءإصلاحاتلخفض نفقات الدولة، فإنه فشل في معالجة الأسباب الكامنة وراء تلك النفقات، أو وضع آلية ذات مصداقية لضمان أن طلبات الإنفاق لن تتكرر. وطالما أن النظام السياسي مبني على السياسيين، وأتباعهم يقتاتون من موارد الدولة، فلن يتغير شيء. وفي الواقع، وعلى الرغم من أن الحريري أغرى المتظاهرين بشأن إجراء انتخابات جديدة، فإن هذا، حتى لو حدث، يعني ببساطة المزيد من الاحتجاجات. إن ما يحتاجه لبنان هو تغيير جذري وفرعي لطريقة تشكيل الحكومة. وهذا، للأسف، سيكون أملاً ملحًا في هذا الوقت.

ولكن بدون ذلك، وطالما أن حزب الله يتدخل في طريقة إدارة الدولة، أو، في الواقع، يطبق سياسته الأجنبية الخاصة به، سيبقى لبنان في حالة حرب دائمة. وسيظل النمو الاقتصاديوالأهم من ذلك، تدفق العملات الأجنبيةضعيفًا، لأن أمريكا ستستمر في مراقبة البلاد عن كثب للتأكد من أن إيران وسوريا وحزب الله لن يستغلوا النظام المالي لتمويل الأنشطة غير المشروعة. وطالما أن القطاع المالي اللبناني يخضع للتدقيق الأمريكي، وطالما أن البلد يعيش في حرب دائمة مع جيرانه، وطالما أن حزب الله مستمر في استفزاز إسرائيل دون سبب وجيه، فلن يأتي أي مستثمرون، وتستمر الليرة في المعاناة، ويحل الفقر على البلاد.

إن المتظاهرين اللبنانيين ليسوا خبراء في الاقتصاد، وبدون قيادة تتفهم ما يتطلبه الأمر لوقف الانهيار الاقتصادي، فلن يتغير أي شيء. يبدو أن شعوب إيران والعراق، وشعب سوريا إلى حد ما، تقبلت الفكرة القائلة بأنالكرامة الوطنيةغير مرتبطة بالازدهار، بل بالخطب العدائية، وامتلاك صواريخ بعيدة المدى، وذلك وفقا لما يصرح بيه قادتهم. ولأول مرة، يجد لبنان أن خيارات سياسته الخارجيةسواء كانت طوعية أو مفروضة عليه من قبل حزب اللهمكلفة للغاية. ولتغيير ذلك، تحتاج لبنان إلى التفكير بطريقة أخرى في طريقة تشكيل الحكومة وتغييرها فعليًا، وانتزاع السيطرة من القلة الحاكمة، ومنع حزب الله من التصرف دون عقاب.

إنالانتصارات الإلهيةلم تجلب إلى لبنان سوى الدمار والفقر؛ كما أنالكرامة الوطنية، كما يتصور حزب الله، والدولة اللبنانية، ترقى إلى الإحباط واليأس. والآن، يحاول الحريري تقديمإصلاحاتلبنانية. لكننا سمعنا هذا الكلام من قبل، قطعًا، ولم يتغير شيء. ولن يتغير شيء. ليس الآن، وليس بعد.

يعملحسين عبد الحسين مديرًا مكتب صحيفة الراي الكويتية اليومية بواشنطن، وزميل زائر سابق بالمعهد الملكي في لندن.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: