من شأن التوترات بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين أن تخلق حالة من عدم اليقين الاستراتيجي لدى حكومات الشرق الأوسط، لاسيما في علاقاتها مع الصين، وبشكل أعم، في خياراتها السياسية المتعلقة بالتنمية الاقتصادية والدبلوماسية والسياسات الداخلية.
وفي أعقاب جائحة فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19″، دعا السياسيون الأمريكيون إلى فصل الاقتصاد الأمريكي عن الصين. وهذا يعني أن السياسة الأمريكية ستحفز الشركات الأمريكية في قطاعات إستراتيجية مثل الرعاية الصحية والتكنولوجيا إما لإعادة أجزاء من التصنيع إلى الوطن أو نقلها إلى بلدان أكثر ثقة.
وهذا يمثل فرصة للاقتصادات كثيفة العمالة مثل مصر وتونس والمغرب والتي تربطها بأمريكا علاقات جيدة نسبيًا. ومن شأن الاستمرار في توفير وظائف الصناعات التحويلية لعدد كبير من الشباب العاطلين عن العمل في تلك البلدان أن يزيد من الاستقرار الاجتماعي والسياسي فيها. ومن ناحية أخرى، فإن طبيعة المنافسة الاقتصادية المتزايدة والصفرية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية تعني أن دول الشرق الأوسط التي تتطلع إلى تطوير صناعات عالية التقنية كجزء من برامج التنويع الاقتصادي لديها يجب أن تأخذ في الاعتبار مخاطر التعامل التجاري مع الصين.
فعلى سبيل المثال، أعلنت إدارة ترامب مؤخرًا فرض عقوبات على أي شركة في العالم تبيع إلى شركة هواوي الصينية للاتصالات الرقائق الدقيقة التي تحتوي على التكنولوجيا الأمريكية أو من صناعتها. وسيؤثر ذلك بشدة على خطط العديد من دول الخليج بخصوص تطوير قدرات مواطنيها على تصنيع الرقائق الدقيقة. وإذا كانت شركة هواوي هي هدف العقوبات الأمريكية اليوم، فقد تكون أي شركة صينية غدًا – وخاصة وأن صانعي السياسة الأمريكيين يميلون إلى الاعتقاد بأن معظم الشركات الخاصة في الصين لها علاقات وثيقة مع الحزب الشيوعي.
ولأن الشركات الصينية أصبحت رائدة عالميًا في قطاعات عدة بدءًا من الاتصالات والهندسة وصولاً إلى التجارة الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن عدم القدرة على الدخول في شراكة مع تلك الشركات أو إبرام معاملات تجارية معها سيشكل عائقًا خطيرًا للشركات في دول الخليج، وكذلك خطط تنويع اقتصادات المنطقة.
وفي ظل انسلاخ أمريكا عن دول الشرق الأوسط، من المرجح أن تشغل الصين الفراغ الذي تخلفه أمريكا. وعلى المدى المتوسط، لن تلعب الصين على الأرجح دورًا عسكريًا، بل دورًا تجاريًا أكثر أهمية: وبعد الجائحة، من المرجح أن تصبح الصين أكبر مصدر تمويل فردي من دولة إلى أخرى لمشاريع البنية التحتية العديدة في المنطقة، وهو ما يساعد على دعم شرعية العديد من النخب الحاكمة في المنطقة.
وسيكون التمويل الصيني حاسماً بشكل خاص بالنسبة لحكومات المنطقة، ولاسيما أن انخفاض أسعار النفط يضع ضغوطاً إضافية على العديد من الميزانيات. وبينما تقدم الصين تمويلًا جيدًا دون قيود على هذه الحكومات، فإنها تفرض ثمناً سياسياً غير معلن، حيث تسعى بكين إلى إعادة تشكيل النظام العالمي وفقاً لما تفضله. ويتعين على حكومات الشرق الأوسط أن تقرر مدى استعدادها لقبول سيادة الصين كجزء من فترة “باكس سينيكا” الناشئة. فعلى سبيل المثال، إلى متى يمكن للنظام في طهران، والذي يفخر بأنه لسان جميع المسلمين في جميع أنحاء العالم، أن يظل صامتًا بشأن معاملة الأويغور في مقاطعة شينجيانغ دون تقويض شرعيته الداخلية؟.
ومع ذلك، هناك مزايا في الوجود الصيني التجاري الهائل في الشرق الأوسط، وهو أن الصين من المحتمل أن تقنع الأطراف المتنازعة في المنطقة بالوصول إلى نوع من الوفاق أو التقارب. وعلى عكس الولايات المتحدة الأمريكية، ذات الدور النشط في تلك الصراعات، تأخذ الصين الحياد. ولكنها تتابع الأوضاع كذلك. إن تسوية النزاعات الإقليمية يعني مشاكل أقل للمشروعات المفضلة لبكين مثل مبادرة الحزام والطريق.
ومن أهم تداعيات التوترات بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين هي تنامي إعجاب دول الشرق الأوسط بالنموذج السياسي الصيني. وعلى الرغم من فشل التعامل في بادئ الأمر مع جائحة فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19″، نجحت الصين نسبيًا في احتواء الفيروس الذي يسببه. إن النظام شديد المركزية الذي يقوم عليه الحزب الشيوعي، والقدرة على وضع أعداد كبيرة من السكان تحت الحظر، وإجراء مراقبة جماعية على مواطنيه الذين لا يجدون متنفسًا، ووسائل إعلام تخضع لرقابة صارمة من أجل نشر الأخبار المطلوبة في البلاد، وتزايد ممارسة الدعاية الماهرة في الخارج من خلال التبرع بالمعدات الطبية – أصبحت محط اهتمام العديد من دول الخليج.
وعلى النقيض من ذلك، كشف تعامل أمريكا مع فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19” عن ضعف نظامها السياسي، حيث تتنافس الحكومات الفيدرالية وحكومات الولايات للحصول على المعدات الطبية، وأظهر دونالد ترامب اهتمامً بالغًا بالانتخابات الرئاسية المقبلة أكثر من اهتمامه بنصيحة الخبراء العلمية. كما أظهرت الجائحة مدى ضعف نظام الرعاية الصحية الموجه للربح في أمريكا. إضافة إل ذلك، لا حظ الجميع ذلك النفاق الذي يمارسه ترامب بالتهديد باستخدام الجيش لقمع الصراع المدني في الولايات المتحدة بينما تنتقد إدارته بكين لردها الشديد على الاحتجاجات في هونغ كونغ.
إن أبلغ تنبيه على حدوث هذه التوقعات هو أن يستعيد الديمقراطيون البيت الأبيض في نوفمبر. فمن المرجح أن تسعى أمريكا بقيادة جو بايدن إلى التعددية واستعادة دور أمريكا كداعم لنظام عالمي قائم على القواعد العالمية. ومن المحتمل أيضًا أن تتعاون إدارة بايدن مع الصين مرة أخرى، وتتجنب استغلال العلاقة مع بكين لتحقيق مكاسب سياسية في الداخل.
وإذا حدث ذلك، فستتلاشى سحابة عدم اليقين الاستراتيجي التي تخيم على التفاعلات الحالية بين الشرق الأوسط والصين، ويكون أمام قادة المنطقة المزيد من الخيارات لصياغة السياسة.
دنيانيش كامات، محللاً سياسيًا في شئون الشرق الأوسط وجنوب آسيا، ويقدم أيضًا استشارات للحكومات حول المبادرات السياسية والإستراتيجية لتعزيز نمو الصناعات الإبداعية كالإعلام والترفيه والثقافة.