سلسلة جديدة من العقوبات طال انتظارها دخلت حيز التنفيذ مؤخرًا، وتسمى “قانون قيصر” الذي يستهدف الكيانات المقربة من النظام السوري ومن يدعم تلك الكيانات، وقد جاءت تسمية القانون نسبة إلى ضابط منشق عن الجيش السوري، كان قد كشف عن كنز ثمين من الوثائق التي تؤكد على برنامج التعذيب الذي يتبّعه النظام السوري، وبشكل ظاهري فإن القانون يبحث عن حقوق الضحايا، ويرمي ضمن أهداف أخرى لإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، والشروع في عملية مصالحة حقيقية قبل رفع العقوبات المفروضة وفقًا لقانون قيصر، والواقع على أي حال هو أن ذلك القانون لن يجلب العدالة لضحايا نظام الأسد، بل أنه لن يُسفِر إلا عن المزيد من هؤلاء الضحايا.

والعقوبات الاقتصادية تعُد أداة قوية ومباشرة، وأشد تلك العقوبات حدة هو قانون قيصر سوريا لحماية المدنيين.

والفرق بين تلك العقوبات وبين العقوبات الاقتصادية التي فرضها الاتحاد الأوربي على سوريا منذ العام 2011؛ هو أن تلك العقوبات الأخيرة تستهدف الشركات التي تساهم في تمويل أو إعادة إعمار سوريا، ومن ثم فإن تلك العقوبات تعمل بصورة أسهل على عزل النظام السوري، لأن الولايات المتحدة ليست بحاجة لإثبات العلاقة بين النظام السوري وهؤلاء الأشخاص المستهدفين، وبدلًا من ذلك فإن تلك العقوبات يمكنها معاقبة الشركات التي تعمل في مجالات صناعية معينة في سوريا، مثل قطاعي البناء والطاقة.

وهناك مجموعة كبيرة من الكيانات من الممكن أن تشملها تلك العقوبات، منها بنوك لبنانية ومستثمرين خليجيين وشركات أوربية، ولا توجد جهة ما تمتلك الحصانة ضد تلك العقوبات، وبناء على الكيفية التي سيتم بها إنفاذ هذا القانون؛ سيتضح إذا لم يكن مجرد أداة لترسيخ مواقف أعداء أمريكا وفي ذات الوقت إلحاق الضرر بحلفائها.

وقد باتت لبنان في صدارة من يقفون على خط النار، وهي تعاني من اضطرابات اجتماعية وأزمة سياسية مزمنة، كما تتحمل عبئًا هائلًا فيما يتعلق باللاجئين الفارين من الحرب الأهلية السورية، ولو توقفت الشركات اللبنانية – خاصة تلك التي تعمل في القطاع المالي – عن التعامل مع سوريا؛ فإن هذا الأمر سيُلحِق الضرر بالصادرات وعائدات الضرائب.

والغريب أيضًا أن هذا القانون سيقدم النفع لحزب الله بصورة مباشرة، وهو أحد الأهداف الغير مباشرة لتلك العقوبات (أي حزب الله)، وإذا ما باتت الشركات اللبنانية غير قادرة على التبادل التجاري بشكل مباشر مع دمشق فستلجأ لطرق التهريب الغير مباشرة، وبما أن لدى حزب الله نفوذ هائل في منطقة السلاسل الجبلية بطول الحدود الشرقية، وهي المنطقة التي تشهد مُعظم عمليات التهريب، فإن تلك الجماعة المسلحة ستربح الكثير من وراء هذا الأمر.

وتنضم كل من موسكو وطهران إلى قائمة الفائزين المحتملين جراء فرض تلك العقوبات، وهما هدفين آخرين غير مباشرين لواشنطن، فمسألة العزل ستجعل نظام الأسد أكثر اعتمادًا على هاتين الدولتين، مع الأخذ في الاعتبار أن التواصل المؤقت بين الدول العربية والنظام السوري على مدار العامين الماضيين (أقدمت كل من الأردن والإمارات والبحرين والسودان على خطوات لتحسين العلاقات مع دمشق) يعود إلى عمل توازن صريح ضد النفوذ الإيراني، وقانون قيصر سيؤدي إلى وضع حد لتلك العملية، وهذا القانون لن يستطيع إضعاف سيطرة طهران وموسكو على دمشق، كما أنه سيدفع بالأسد للجوء إلى كل منهما حيث أنه لا طريق آخر أمامه، مما سيوفر لكل من إيران وروسيا المزيد من النفوذ في هذا الإطار.

وقانون قيصر لن ينفع السوريين، وهذا ينطبق على عائلات الضحايا وكذا على من هم على قيد الحياة.

وقانون قيصر سينتهي بالولايات المتحدة أن تصبح واقفة في منتصف الطريق: فهي لن تستمر في المطالبة برحيل بشار الأسد، كما أن واشنطن الآن لا تنوي السماح للدول الأخرى بإعادة إعمار الدولة التي لازال الأسد رئيسًا لها، والواقع أن قانون قيصر يبدو أنه عازم – وربما تم وضعه لهذا الغرض – على حصار سوريا لكن دون خنقها، لذا فإن هذا القانون سيجعل سوريا في وضع غير متوازن وغير قادرة على التعافي بشكل نهائي وأضعف بكثير من أن تلعب دورًا في المنطقة، لكنه سيجعل النظام قويًا بحيث يصبح من الصعب الإطاحة ببشار الأسد.

لكن سوريا الجريحة سينتج عنها ضررًا إنسانيًا هائلًا، وإصابة سوريا بالشلل عبر العقوبات سيؤدي إلى كارثة إنسانية مساوية لما حدث في تسعينات القرن الماضي وأدّى إلى تدمير العراق، كما أن العقوبات حينها لم تُسفِر عن الضغط الكافي للإطاحة بصدام حسين، وبدلًا من ذلك أسفرت العقوبات عن كارثة تسللت للعراق ببطيء وأدّت إلى مقتل نصف مليون طفل عراقي – حيث قُتِل من الأطفال أكثر من هؤلاء الذين راحوا ضحية للقنبلة النووية التي ضربت مدينة هيروشيما اليابانية، كما أشار أحد المذيعين في لقاء مع سفيرة واشنطن في الأمم المتحدة حينها مادلين أولبرايت، وقد أجابت أولبرايت حينها قائلة :”أعتقد أن الأمر يستحق الثمن الذي تم تسديده”.

والعدالة لم تتحقق في العراق ولن تتحقق في سوريا، وتحقيق العدل لضحايا التعذيب لا يجب أن يؤدي إلى إضافة المزيد لقائمة الضحايا.

علاوة على ذلك، فإن النظام السوري من المؤكد أنه سيقوم بالرد على هذه الضغوط الجديدة بنفس طريقة صدام حسين، أي عبر المزيد من القمع والتنكيل، وسوريا الفقيرة والمعزولة والأكثر قمعًا ستدفع بالمزيد من المواطنين العاديين للرحيل عنها، كما أنها ستجعل المغتربين السوريين لا يملكون الدافع من أجل العودة إلى وطنهم، وهذا الأمر بدوره سيؤدي إلى زيادة الضغط الخاص باللاجئين على الدول الأوربية ودول الشرق الأوسط.

وعلى هذا النحو فإن قانون قيصر ستكون له تكلفة تطال الجميع ما عدا الولايات المتحدة، وما لم يفعله القانون على أي حال هو مطالبة النظام السوري بالعودة إلى طاولة المفاوضات في إطار تسوية جنيف، وهذا يعني أن الآلية السياسية الوحيدة المتوفرة من أجل إجبار النظام على مشاركة السلطة دون الإطاحة به نهائيًا؛ باتت مُهملة.

وقد مر ما يقرب من 7 سنوات على نجاح “قيصر” في الكشف عن برنامج التعذيب الجماعي الذي يتبعه النظام السوري، وتحقيق العدالة للرجال والسيدات الذين تعرضوا للموت بصورة بشعة، والذين أجبرت عائلاتهم على البحث عن مصيرهم عبر التدقيق في صور الموتى؛ تلك العدالة تأجلت طويلًا، ويجب أن تتم محاسبة نظام الأسد، لكن هذا القانون الذي سُمِيّ باسم إنسان لن يجلب العدالة لباقي الضحايا.

 

يقوم فيصل اليافعي حالياً بتأليف كتاب حول الشرق الأوسط، كما أنه يظهر كمعلق بشكل متكرر على شبكات التليفزيون الإخبارية الدولية، وقد عمل بالعديد من وسائل الإعلام المعنية بالأخبار مثل غارديان و”بي بي سي” وعمل مراسلاً بالشرق الأوسط وشرق أوربا وآسيا وأفريقيا.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: