يتجلى النفاق بأبهى صوره عبر الاشتباكات الدائرة في إقليم “ناغورني قره باغ” من خلال سياسة الواقع. والسبب أن تلك الاشتباكات تكشف عن حالة الانفصام الشديد المتمثلة في تصرفات الأطراف الإقليمية الرئيسية. وصحيح أن أفعال الدول غالبًا ما تناقض أقوالها. ومع ذلك، فإن إقليم “ناغورني قره باغ” يمثل نقطة تحول فريدة. وأظهرت دول المنطقة تجاهلها الصريح للآليات القائمة متعددة الأطراف، مثل مجموعة مينسك، واتخاذ إجراءات من شأنها التهديد بإطالة أمد الصراع. والأمر المزعج على وجه الخصوص هو أن تلك الإجراءات تتناقض والروايات القومية التي تتبناها النخب السياسية.
ولنبدأ بتركيا، وتحت ذريعة أن أذربيجان وتركيا هما “أمة واحدة في دولتين”، ألقى رجب طيب أردوغان بثقل بلاده خلف أذربيجان. ومع ذلك، لو كانتا أذربيجان وتركيا دولة واحدة، لكان الرئيس الأذربيجاني “إلهام علييف” جزء من المعارضة العلمانية نفسها التي كان هدمها هو أبرز ما حققه أردوغان في مسيرته السياسية. ويتبنى نظام “علييف” في أذربيجان العلمانية الصارمة، لدرجة أن النظام يستاء من العروض العلنية للدين. ومن ناحية أخرى، وعلى خطى جماعة الإخوان المسلمين، كانت إحدى الدعائم الأساسية لسياسة أردوغان الخارجية هو تقويض الأنظمة العلمانية في الشرق الأوسط. والسبب في النفاق التركي في تعاملها مع نزاع “ناغورني قره باغ” هو حاجة تركيا إلى تحقيق أحد أهداف أردوغان طويلة المدى، وهو الحفاظ على الشعبية المحلية من خلال اتباع سياسة خارجية عثمانية جديدة تضمن النفوذ التركي في المنطقة بأكملها.
وتشكل التحركات التركية في القوقاز تحديًا لروسيا. وترى روسيا أن دول الاتحاد السوفيتي السابقة في المنطقة هي ضمن دائرة نفوذها. وقد يشكل هذا الأمر تهديدًا آخر للصراع بين روسيا وتركيا، بالإضافة إلى ليبيا وسوريا.
لقد حاولت تركيا منذ فترة طويلة إضعاف روسيا في المنطقة من خلال دعم بناء خطوط الأنابيب التي تنقل النفط والغاز من أذربيجان إلى ساحل البحر المتوسط التركي.
ورغم هذا، مارست روسيا أيضًا دورًا استفزازيًا في منطقة القوقاز. وعلى الرغم من أن روسيا لا تزال الداعم الأساسي لأمن أرمينيا من خلال اتفاقية دفاع مشترك، إلا أنها استمرت في بيع الأسلحة إلى أذربيجان. وربما هذا لكي تضمن روسيا أن تكون دولة هامة لكلتا الدولتين. ولكن المسؤولين في موسكو قالوا، إن دعمهم لأرمينيا أمنيًا لا يمتد إلى إقليم “ناغورني قره باغ”، لأنه لا يزال تابعًا لأذربيجان رسميًا. وهذا الموقف الروسي غني بالمفارقات، لأن موسكو عمدت منذ فترة طويلة إلى دعم الجمهوريات الانفصالية في الدول المجاورة المضطربة مثل جورجيا وأوكرانيا.
وتتبع إيران نفس الانفصام في تعاملها مع هذا الصراع. وبحسب الظاهر، يبدو أنه من الطبيعي أن تكون إيران داعمة لأذربيجان. والأخيرة ذات أغلبية شيعية مثل إيران، ويشكل الأذربيجانيون ربع سكان إيران. ولهذا السبب، أعلن ممثلو المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي عن دعمهم لأذربيجان في المقاطعات الإيرانية ذات الأغلبية الأذرية. ومع ذلك، يشكل هذا الدعم سيفًا ذو حدين للنظام. ولطالما اشتكى العرق الأذربيجاني من هيمنة المؤسسة الفارسية في البلاد. ومن وقت لآخر، أطلق السياسيون في أذربيجان على المقاطعات ذات الأغلبية الأذربيجانية في إيران اسم “جنوب أذربيجان”، مما يعني أن تلك المقاطعات يجب أن تكون جزءًا من جمهورية أذربيجان.
وعلاوة على ذلك، فإن النظام في باكو علماني، ويتمتع بعلاقات جيدة مع إسرائيل، وبينهما علاقات عسكرية وفي مجال الطاقة. ولطالما اشتبهت إيران في أن إسرائيل تستخدم أذربيجان كقاعدة للمراقبة أو ربما منصة لشن هجمات في المستقبل. ومن شأن المكاسب التي حققتها أذربيجان في “ناغورني قره باغ”، أو الأراضي المحيطة التي تحتلها أرمينيا حاليًا، أن توسع حدود أذربيجان مع إيران، ومن ثم تقوية إسرائيل وتركيا. ولهذا السبب، تواصل إيران الحفاظ على علاقات وثيقة مع أرمينيا، حتى في الوقت الذي تدعي فيه إيران دعم وحدة أراضي أذربيجان. وتواصل طهران إنكارها المعلن بأن الإمدادات العسكرية لأرمينيا تمر عبر الأراضي الإيرانية.
وتشير التقارير الأخيرة إلى أن أذربيجان قد نشرت طائرات مٌسيرة إسرائيلية الصنع من طراز “كاميكازي” في النزاع. واستهجانًا منها لما فعلته إسرائيل، استدعت أرمينيا الأسبوع الماضي سفيرها لدى إسرائيل. وقد يعتقد المرء أن تاريخ القرن العشرين للشعب اليهودي في أوروبا من شأنه أن يثير تعاطف إسرائيل مع أرمينيا. ومع ذلك، تملي ضرورات السياسة الواقعية أن تحافظ إسرائيل على علاقات ودية مع أذربيجان. وتستورد إسرائيل النفط من أذربيجان، وتبيع إليها كميات كبيرة من الأسلحة المتطورة. ومن الجدير بالذكر القول بأن إسرائيل لم تعترف حتى بالإبادة الجماعية للأرمن.
وفي أوروبا، شجبت فرنسا دعم تركيا لأذربيجان، وألقت باللوم عليها في تأجيج الصراع. ويبدو أن إيمانويل ماكرون يعارض ارتجاليُا بأساليب متطورة أي شيء تفعله تركيا، سواء من حيث عضويتها المتعثرة في الاتحاد الأوروبي، أو شرق البحر المتوسط أو ليبيا. ومثل أردوغان، يراقب ماكرون السياسة الداخلية. وهناك في فرنسا مجتمع أرمني كبير. وقد تكون تصريحات ماكرون الأخيرة والمثيرة للجدل، والتي حذر فيها من “الانفصالية” الإسلامية في فرنسا، طريقة ذكية لخداع اليمين المتطرف في بلاده. ومع ذلك، فإنه يقوض مصداقية مواقف السياسة الخارجية لفرنسا.
قد يتحول نزاع ناغورني قره باغ” إلى نزاعٍ خطير ومتاح للجميع. وحذرت أذربيجان من سقوط صواريخ بالقرب من خزان مياه في مدينة مينجاتشيفير، والذي في حالة تعرضه للقذف، فقد تتعرض 14 مدينة أذربيجانية للغرق. وتزعم أرمينيا أن أذربيجان هددت بمهاجمة منشآتها النووية التي تعود إلى الحقبة السوفيتية. ومن المؤكد أن إمكانية وقوع هذا الهجوم سيلفت انتباه العالم واهتمامه.
وإجمالاً، يمثل نزاع “ناغورني قره باغ” دليل دائم على الانهيار التام للتعددية التي كانت تقودها الولايات المتحدة الأمريكية في السابق والنظام العالمي القائم على المبادئ. ويتضح في أعقاب هذا النزاع النفاق الخطير لدول المنطقة المتخفية وراء سياسة الواقع.
دنيانيش كامات، محللاً سياسيًا في شئون الشرق الأوسط وجنوب آسيا، ويقدم أيضًا استشارات للحكومات حول المبادرات السياسية والاستراتيجية لتعزيز نمو الصناعات الإبداعية كالإعلام والترفيه والثقافة.