خلال الشهر الماضي دعا المرجع الشيعي الأعلى في العراق، آية الله علي السيستاني، إلى حل جميع الميليشيات، وهذا يعني قيام الدولة بنزع سلاح والقضاء على وحدات الحشد الشعبي الموالية لإيران، وفي المقابل، فإن تلك الخطوة ستؤدي إلى تحييد أكثر الشركاء الذين تثق فيهم طهران على الأراضي العراقية، ونقصد بهم كتائب حزب الله التي تعُد البديل الأخطر لسُلطة الدولة في العراق، ومن هنا تأتي أهمية دعوة السيستاني لتأكيد نزاهة الدولة العراقية، والواقع أن رئيس الوزراء الذي حصل الآن على غطاء من القيادة الدينية بمدينة النجف، معقل الشيعة، يجب أن يتعامل مع الأمر بشكل سريع، ولكن ما نشهده اليوم هو تعطيل تلك العملية.
وكتائب حزب الله – وممكن أن تسميها ألوية حزب الله – كانت مشغولة ببناء دولة داخل الدولة في العراق، ولو لم تتخذ الحكومة خطوات عاجلة، فستصبح كتائب حزب الله أقوى من الدولة العراقية ذاتها، وسيكون ذلك بطريقة تشبه ما يفعله حزب الله اللبناني الذي سمت تلك الكتائب نفسها بنفس اسمه ، وهو ما سيجعل العراق عُرضة للفشل باعتبارها دولة وكيلة لإيران.
وبالنسبة لهؤلاء غير المُطّلعين على التاريخ العراقي القريب الذي يعاني من الكوارث السياسية؛ فإن القليل من التوضيح سيكون أمرًا مفيدًا في هذا الإطار.
وعلى غرار حزب الله اللبناني فإن كتائب حزب الله تعُد العمود الفقري الذي يدعم وحدات الحشد الشعبي، والأهم أنها تسيطر على وحدة “الأمن الداخلي” التابعة للحشد الشعبي، والتي تتولّى بدورها العمليات الاستخباراتية التي ترمي إلى مراقبة المقاتلين وتأديب من يخرج عن التعليمات من هؤلاء المقاتلين، وأيضًا، قائد كتائب حزب الله عبد العزيز المحمداوي يعُد بمثابة القائد الحقيقي لوحدات الحشد الشعبي عوضًا عن فالح الفياض الذي يعُد قائدًا لتلك الوحدات بشكل صوري.
ولن يكون من قبيل المبالغة وصف كتائب حزب الله بأنها “دولة” في حد ذاتها، فهي تسيطر على أراضِ تتحكم في الحدود العراقية، وقد نجحت كتائب حزب الله في إجبار بغداد على أن تؤجر لها مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية في منطقة جرف الصخر التي تقع جنوبي بغداد وأراضِ أخرى تقع على الحدود العراقية السورية، وهي تدير تلك الأراضي باعتبارها إقطاعيات ممنوع على الدولة الدخول إليها، وتقوم كتائب حزب الله بتدريب واستضافة مقاتليها في القواعد التابعة لها، كما تمتلك مخازن للأسلحة، وتشير تقارير استخباراتية غربية إلى أن كتائب حزب الله تعمل بمساعدة إيران على تصنيع صواريخ موجهة عالية الدقة في القواعد التابعة لها.
ومثل حزب الله اللبناني، فإن التشكيلات المقاتلة لكتائب حزب الله تعُد عنصرًا من عناصر الدولة المصغرة، وهي تدير منظمات خيرية لمساعدة عائلات المقاتلين بما فيهم هؤلاء الذين يُقتلون في المعارك، وتلك المنظمات توفر الرعاية الصحية والمدارس والمساكن والدعم الاجتماعي والمالي والدروس الدينية.
وتلك النقطة الأخيرة لها أهمية خاصة؛ فمن تقاليد المسلمين الشيعة أن يتعهّد أتباع تلك الطائفة بالولاء لحكامهم، والإذعان لشيوخهم فقط فيما يخص المسائل الدينية، وإذا ما شعر أي مسلم من الشيعة بأنه يتعرض للظلم يجب عليه أن يلجأ إلى الإمام الثاني عشر محمد المهدي بحثًا عن العدل، ويؤمن المسلمون الشيعة أن الإمام المهدي ظل على قيد الحياة منذ القرن التاسع منذ حدثت عملية “اختفاؤه”.
ولكن للمفارقة وبسبب تأثير جماعة الإخوان المسلمين (السُنيّة) فقد قام آية الله الخميني بالتأسيس للنسخة الشيعية للإسلام السياسي، والتي من المفترض أن يقوم المسلمين الشيعة من خلالها بالتعهُد بالولاء لقادة الدولة، الذين يعتبرون نوابًا عن المهدي حتى يعود الإمام من جديد، وبالطبع فإن إيران ترى نفسها باعتبارها الحامي والمركز السياسي للمسلمين الشيعة.
ويرفض السيستاني والمسلمين الشيعة التقليديين مبدأ الخوميني في تجديد العقيدة الشيعية، والتي تلقى أيضًا استجابة محدودة من أتباع المذهب الشيعي في العراق، باستثناء أعضاء الميليشيات الموالين لإيران.
واليوم وبعد أن أظهرت القيادة الدينية في النجف معارضتها للميليشيات الموالية لإيران، ومع تصاعُد المشاعر المناهضة لإيران على مستوى البلاد، فإن الدولة العراقية باتت لديها فرصة للتأكيد على سيادتها، حتى أنه يمكن لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الاعتماد على الدعم الدولي من أجل إلحاق الهزيمة بكتائب حزب الله، التي وضعتها واشنطن على لائحة الإرهاب الدولية، وستعمل الإدارة الأمريكية جمهورية كانت أم ديمقراطية على مساعدة بغداد من أجل القضاء على وكلاء إيران.
وعلى أي حال، لم يتخذ الكاظمي أية خطوات بعد مرور شهر، والأمر بات بمثابة لغز، ولا أحد يعلم لماذا امتنع الكاظمي عن التحرك، وربما تكون هناك بعض الحسابات السياسية، أو ربما يخشى رئيس الوزراء على حياته، ومهما كان السبب، يجب على الكاظمي أن يدرك أهمية عامل الوقت، ومن ثم فقد بات عليه أن يستفيد من تلك الفرصة لتحييد كتائب حزب الله أو أن يتنحّى جانبًا ويفسح المجال لغيره من أجل إتمام تلك الخطوة.
والمؤكد أن الكاظمي بات عليه أن يدرك أن بقائه دون حراك سيؤدي إلى تقويض سُلطته، وذلك لأن كتائب حزب الله والوكلاء الآخرين الذين يقعون تحت قيادتها يعملون على أن يكونوا بمثابة سُلطة بديلة للسُلطة الشرعية في بغداد، ومما زاد الأمر سوءًا فقد نجحت إيران حتى في إجبار الحكومات العراقية المتعاقبة على تسديد رواتب وحدات الحشد الشعبي، والواقع أنها نجحت في إجبار بغداد على تمويل ودعم النفوذ الإيراني وتقويض سُلطة بغداد، ولو اتخذنا حزب الله اللبناني كمثال فإن كتائب حزب الله لو نجحت بشكل قاطع ومؤكد في أن تكون بمثابة دولة داخل الدولة سيكون من المستحيل القضاء على تلك الكتائب.
وبالنظر إلى معاناة إيران المالية بسبب قيام واشنطن بتجديد العقوبات والضعف الذي تشهده بسبب الأزمة الداخلية؛ فقد باتت الفرصة سانحة أمام الكاظمي: ويجب عليه الاستفادة من هذا الأمر واستئصال سرطان الميليشيات الإيرانية التي تعمل على تقويض سيادة حكومته، وإن لم يفعل فسيؤدي نهوض إيران مجددًا إلى القضاء على الكاظمي وأي قائد يأتي بعده مما سيقضى على الشرعية الدستورية للدولة العراقية، وإذا ما نظرنا إلى التاريخ الحديث كنبراس لنا فإن الشخصية الهشة التي يمكن النيّل منها في العراق تتمثّل في رئيس الوزراء.
حسين عبد الحسين، هو مدير مكتب صحيفة “الراي” الكويتية اليومية في واشنطن، و زميل زائر سابقًا في معهد “تشاتام هاوس” لندن.