النزاع الأخير في ناغورنو كاراباخ كان بمثابة كارثة استراتيجية بالنسبة لإيران، لماذا؟ لأن شروط وقف إطلاق النار التي وافقت عليها كل من أرمينيا وأذربيجان تُمثّل تهديدًا خطيرًا للمصالح الاستراتيجية الإيرانية على المدى الطويل، وتداعيات هذا الأمر من المرجح أن تؤثّر على صورة النظام الإيراني أمام الشعب الإيراني، كما أنها ستؤدي إلى تغيير السياسة الإيرانية فيما يخص أذربيجان وسوريا.
واليوم باتت أذربيجان تسيطر على طول الحدود مع إيران عبر نهر أراس، ورغم أن هذا الأمر يدعو إلى الاحتفال في باكو إلا أنه بات بمثابة جرس إنذار بالنسبة لطهران، والسبب في ذلك يعود إلى أن توسيع الحدود الأذربيجانية مع إيران سيجعل إسرائيل قادرة على الوصول إلى المزيد من الأراضي التي تستطيع من خلالها مراقبة إيران، وعلى الرغم من إنكار باكو إلا أنه لم يعُد سرًا حقيقة التعاون الدائم بين أذربيجان وإسرائيل في مجالات الاستخبارات والطاقة والأمور العسكرية.
وتعُد أذربيجان واحدة من أكبر المشترين للأسلحة الإسرائيلية، وقد جاء استخدام أذربيجان للطائرات الإسرائيلية بدون طيار “كاميكازي” ليلعب دورًا هامًا لترجيح كفة أذربيجان في الحرب – وذلك على الرغم من أن الطائرات التركية بدون طيار من طراز بيرقدار تي بي2 كانت لها اليد العليا فيما يخص تحويل المعارك لتصبح في صالح أذربيجان، علاوة على ذلك فإن كل من أذربيجان وإسرائيل تحتفظان بعلاقات قوية في مجال الاستخبارات. وإذا ما قررت تل أبيب شن هجمات جوية ضد المنشآت النووية الإيرانية فمن المرجح أن تلعب أذربيجان دورًا حيويًا في هذا الإطار سواء كمحطة للتزود بالوقود أو كموقع لانطلاق تلك الهجمات.
والأمر الأخر الذي ستسفر عنه تلك الحرب هو إقامة ممر عبر الأراضي الأرمينية يربط بين أذربيجان وجمهورية ناختشفان التي تتمتّع بالحكم الذاتي والمُحاطة بالأراضي الأرمينية والإيرانية، وهذا الممر الذي سينتشر فيه الجنود الروس من المرجح أن يكون موازيًا للحدود الأرمينية مع إيران، وهذا الأمر بات مبعثًا للقلق في طهران بما أنه سيمنع الإيرانيين من الوصول إلى أرمينيا ومن ثم إلى أوروبا عبر جورجيا، وبالنسبة لدولة مُنهكة بسبب العقوبات الدولية فإن الأمر من الأهمية بمكان أن تكون إيران قادرة على الوصول إلى أراضي الدول الجارة الصديقة.
وحالة الفزع تلك هي التي أجبرت نائب وزير الخارجية الإيراني عباس عرقجي على القول صراحة إن وصول إيران إلى أرمينيا لن يصبح مُهدّدًا بسبب هذا الممر، والجدير بالملاحظة أن وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف سيسافر قريبًا إلى موسكو وباكو لمناقشة هذا الأمر بالتفصيل، وعلى أي حال فإن الأمر الأهم والجدير بالملاحظة هو العاصمة التي لن يزورها جواد ظريف – أنقرة التي تعُد فائزًا أخر في هذا الصراع يتمتع بالأهمية، وسوف تُبقي تركيا على قوات لها في أذربيجان وقد باتت أنقرة قادرة الآن على الوصول إلى بحر قزوين عبر الممر المزمع بين ناختشفان وأذربيجان، ويمكن لتركيا الآن بسط نفوذها ليصل إلى وسط آسيا، وهذا الأمر يعُد من الطموحات البارزة بالنسبة لرجب طيب أردوغان.
وطهران ستأخذ أيضًا في الحسبان مسألة تردُد روسيا في تقديم الدعم الكامل لحليفتها أرمينيا، والدرس المُستفاد من الدور الروسي في نزاع ناغورنو كاراباخ هو أن موسكو على استعداد للتضحية بحليف لها إذا ما أصبح شديد الإزعاج، وقد أتى رئيس وزراء أرمينيا إلى السُلطة عبر إحدى الثورات الملونة التي يبغضها فلاديمير بوتين، وقد تسبّب باشينيان لاحقًا في الإزعاج لبوتين بسبب قيامه باعتقال الرئيس الأرميني السابق وحليف بوتين “روبرت كوتشاريان”.
ومن ثم وفيما يخص هذا النزاع فقد وقفت موسكو إلى جانب كوتشاريان عوضًا عن الوقوف مع حليفتها ياريفان، وأعلنت موسكو أن التزامها الأمني ينطبق فقط على الأراضي الأرمينية، وقد سمحت موسكو لأذربيجان باستعادة جميع أراضيها المسلوبة، كما سمحت لأرمينيا بالاحتفاظ بأراضِ لا تتمتّع بالأهمية حول عاصمة ناغورنو كاراباخ، وسوف تستمر موسكو في بسط سيطرتها على المنطقة عبر إرسال قوات حفظ السلام إلى كاراباخ وبطول الممر الذي يربط بين ناختشفان وأذربيجان.
وستشعر موسكو أيضًا بالسعادة حال رحيل رئيس الوزراء الأرميني باشينيان، وهو الذي يبدو أن مهمته السياسية قد انتهت، ويبدو أيضًا أن موسكو لا تزال متأثرة بالهدف الأشمل وهو التأكيد على بقاء تركيا خارج الفلك الغربي، وساسة طهران الذين يتمتعون بالدهاء من المؤكّد أنهم سيحصلون على نتائج جيدة في هذا الإطار، خاصة فيما يتعلّق بالبشائر الجيدة التي ستطال بشار الأسد وهو حليف إيران في سوريا، وطهران التي تدرك الرغبة الجامحة لدى روسيا وتركيا لعقد صفقة فيما بينهما قد تستفيد من الموقف عبر دفع الأسد لإنهاء الحرب الأهلية السورية.
ومن أهم التداعيات الداخلية التي تُبرِز دور هذا النزاع فيما يخص السياسة الداخلية في إيران قد تتمثّل في العامل المعنوي، وما حدث يعُد بمثابة ضربة أخرى طالت إيران باعتبارها أحد القوى المهيمنة في المنطقة، والواقع أن إيران كانت في موقع المتفرج فيما يخص هذا النزاع، كما لم تكن قادرة على فرض موقفها فيما يخص تشكيل النتائج، مما يجعلنا نتذكّر الحربين بين روسيا وبلاد فارس في القرن التاسع عشر، والتي أسفرت عن تنازل بلاد فارس عن السيطرة على كامل منطقة جنوب القوقاز.
كما أن هذا النزاع كشف للشعب الإيراني حقيقة أن إيران لم تعُد تملك القوة الاقتصادية والتطور التكنولوجي أو المثال السياسي المُبهِر، لأجل بسط السيطرة على منطقة كانت تحت النفوذ الفارسي لمئات السنين – إن لم يكن آلاف السنين منذ عصر الإمبراطورية الأخمينية، وفي المُجمل فإن ما حدث يعُد بمثابة عامل جديد من عوامل الضرر التي أصابت شرعية النظام الذي يحكم إيران منذ العام 1979.
دنيانيش كامات، محلل سياسي، عمل في شئون الشرق الأوسط وجنوب آسيا، ويقدم أيضًا استشارات للحكومات حول المبادرات السياسية والاستراتيجية لتعزيز نمو الصناعات الإبداعية كالإعلام والترفيه والثقافة.