لا يزال أمامنا شهور عديدة قبل أن نتخلص من فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19″، ورغم ذلك هناك أمل يلوح في الأفق مع بداية إثبات فاعلية العديد من اللقاحات. ولكن حتى مع اقتراب بشائر انتهاء تلك الجائحة، بدأت البحوث من مختلف أنحاء العالم في طرح أسئلة مُثيرة للقلق بشأن مكان ظهور الجائحة ووقته– ووفرت، في أثناء ذلك، بعض الإرشادات حول كيفية دِفاع العالم عن نفسه في مواجهة القاتل الفيروسي التالي.

ظهر فيروس كورونا المستجد “2”، المرتبط بالمتلازمة التنفسية الحادة، لأول مرة في مدينة “ووهان” وسط الصين، في نهاية عام 2019- أو هكذا اعتقد مُعظم الناس. وفي الحادي عشر “11” من يناير/كانون الثاني، وهو اليوم الذي أبلغت فيه الصين عن أول حالة وفاة بسبب الجائحة، نشرت “بكين” التسلسل الجيني لفيروس كورونا المستجد. وبعد يومين ظهرت أول حالة خارج البلاد، وكانت في تايلاند. وبحلول 21 يناير/كانون الثاني، وصل الفيروس إلى أمريكا، وفي 29 يناير/كانون الثاني، أبلغت دولة الإمارات مكتب منظمة الصحة العالمية الإقليمي لشرق البحر المتوسط عن أول حالة إصابة بالمِنطقة.

وكان ثمة اعتقاد بأن فيروس كورونا المستجد المرتبط بالمتلازمة التنفسية الحادة، وفقًا لِما أُطلِق عليه في 11 فبراير/شباط، قد انتقل من حيوان حي إلى مضيف بشري في أحد أسواق “ووهان”، بيد أن الشكوك تزايدت حول هذه “الحقيقة”. فبعد إغلاق سوق “ووهان” في الأول من يناير/كانون الثاني، أُخِذَ 336 عينة من جثث الحيوانات المجمدة – ولم تكن نتائج أيٍ منها إيجابية لفيروس كورونا المستجد “2” المرتبط بالمتلازمة التنفسية الحادة. ومع ذلك، ثبت وجود 61 عينة إيجابية من بين 842 عينة بيئية مأخوذة من مواقع مختلفة في سوق “ووهان”، بما في ذلك أنابيب الصرف الصحي.

صرَّحت منظمة الصحة العالمية قائلة: “لم يتضح بعد ما إذا كان السوق هو مصدر التلوث، أو أنه كان بمثابة بيئة خصبة لانتقال العدوى من إنسان إلى آخر، أو أنه جمع الأمرين معًا”. ولكن التساؤل الأهم هو هل نشأ فيروس كورونا المستجد حقًا في الصين – أم أن الصين كانت أولى الدُول التي تعرَّفَت على الفيروس الجديد؛ نتيجة الخِبرة السابقة التي اكتسبتها خلال معركتها في عام 2003 مع مرض الالتهاب الرئوي الحاد (سارس).

وفي نوفمبر/تشرين الثاني، أجرت منظمة الصحة العالمية تحقيقًا غير معلن لتحديد المكان الذي نشأ منه الفيروس بالضبط وكيفية انتشاره –وهو إجراء معقد لكنه حيوي للمستقبل. أما الأمر الأكثر إثارة للاهتمام، فهو أن فريق التحقيق سيقوم بمراجعة صور الأشعة المقطعية واتجاهات مراقبة الأمراض وعينات الدم المخزنة التي أُخِذَت في مستشفيات “ووهان” قبل ديسمبر 2019، للبحث عن دليل على وجود فيروس كورونا المُستَجَد قبل اكتشافه الرسمي. ولكن النتيجة الصاعقة التي سيصل إليها التحقيق قد تُثبت أن الصين لم تكن هي “المسؤولة” على الإطلاق.

وأوضحت منظمة الصحة العالمية في وثيقة اختصاصاتها، المنشورة بتاريخ “5” نوفمبر/تشرين الثاني، أن التحقيق لن يقتصر على الصين وحدها لمعرفة المكان الذي نشأ منه فيروس كورونا المُستَجَد. وتنص الوثيقة الصادرة عن منظمة الصحة العالمية على أن “اكتشاف الجائحة في مكان ما لأول مرة لا يعني بالضرورة أن هذا المكان هو منشأ الجائحة؛ فقد تم اكتشاف تفشي مرض الالتهاب الرئوي مجهول السبب في “ووهان” من خلال المراقبة. ومع ذلك، لا يمكن استبعاد احتمالية أن الفيروس قد انتشر خلسة في مكان آخر”.

وأضافت منظمة الصحة العالمية أن بعض الدول حدَّدَت حالات إصابة بفيروس كورونا المستجد بأثر رجعي وأنها حدثت قبل أسابيع من الإعلان رسميًا عن أول إصابة، “وقد تشير التقارير غير المنشورة عن العينات الإيجابية لمياه الصرف الصحي إلى أن الفيروس ربما انتشر دون اكتشافه لبعض الوقت”.

ومن هنا خرجت دراسة شاملة نُشرت في يونيو/حزيران في موقع Med Archive، وهو خادم أرشفة وتوزيع مجاني على الإنترنت يعرض مخطوطات بحثية طبية كاملة ولكنها لم تُنشَر بعد. وقد أفاد باحثون إسبان عن العثور على جينومات فيروس “SARS-CoV-2” في عينات مياه الصرف الصحي المجمدة المحفوظة والتي أُخِذَت في برشلونة في 15 يناير/كانون الثاني – أي قبل “41” يوم من اكتشاف أول حالة رسمية لفيروس كورونا المستجد في إسبانيا.

ولكن الاكتشاف الأبرز هو اكتشاف تلك الجينومات في عينات مأخوذة من محطة أخرى لمعالجة مياه الصرف الصحي في 12 مارس/آذار 2019 – أي قبل أكثر من تسعة أشهر من تفشي الجائحة في سوق “ووهان”.

وظهرت نتائج مثيرة مماثلة في جميع أنحاء العالم.

وفي مايو/أيار 2020، خلص علماء فرنسيون إلى أن أول حالة مُصابة بفيروس كورونا المستجد في فرنسا قد أُصيبت بالعدوى في وقت مبكر في السابع والعشرين “27” من ديسمبر/كانون الأول 2019، أي قبل شهر من اكتشاف الحالة الأولى في البلاد. وسجلت إيطاليًا أول إصابة بها في 21 فبراير/شباط 2020. ولكن البحث عن الأجسام المضادة لفيروس كورونا في عينات الدم المأخوذة من 959 متطوعًا سليمًا خلال تجارب الكشف عن سرطان الرئة أظهر أن الفيروس كان ينتشر بالفعل في البلاد في سبتمبر/أيلول 2019.

وفي الولايات المتحدة الأمريكية، نشرت المراكز الحكومية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها دراسة في الأول من ديسمبر/كانون الأول، تدل على وجود نذير مقلق سبق الكارثة التي ما لبثت وأن تفشت في البلاد بعدها بوقتٍ قصير. حيث سجلت الولايات المتحدة الأمريكية أول إصابة بفيروس كورونا المستجد في 19 يناير/كانون الثاني 2020. ورغم ذلك، اهتم الباحثون بالكشف عن الأجسام المضادة لفيروس كورنا “2” المرتبط بالمتلازمة التنفسية الحادة في 7389 عينة محفوظة أُخِذَت من متبرعين بالدم في عدة ولايات، ووجد الباحثون أجسامًا مضادة في 106 عينة. بعض تلك العينات أُخِذت في وقت مبكر لا يتجاوز الثالث عشر “13” من ديسمبر/كانون الأول.

وتستطيع سلطات الصحة العامة في جميع أنحاء العالم تعلم الكثير من تلك النتائج، ومن سيل الدراسات المماثلة التي ستعقبها بلا شك.

قد يتمكن التحقيق طويل المدى الذي أجرته منظمة الصحة العالمية من تحديد كيف نشأ هذا الفيروس، ومتى، وأين، مما يُتيح لعلماء الأوبئة معلومات قيمة جدًا حول كيفية انتشار تلك الفيروسات، والطريقة المُثلى لاحتوائها. ولكن الهدية الحقيقية التي قدمتها تلك الدراسات المُبتَكَرة، والتي أُجريت في إسبانيا وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية، هي أنه يمكن العثور داخلها على مخططات لأنظمة إنذار مبكر قادرة على تسجيل عن وجود كائنات ميكروبية قاتلة جديدة في المستقبل قبل أن تسنح لها الفرصة لإصابة شعوب كاملة.

قبل عام 2020، لم يعتقد سوى القليل أن استمرار الرصد المُنتظم لأعمال معالجة المياه، أو العينات المأخوذة من مرضى المستشفيات أو المتبرعين بالدم، هي أمور فعَّالة من جِهة التكاليف؛ باعتبارها قد تُمثل فُرصة لاكتشاف أحد المسببات الجديدة للأمراض. وبعد عام 2020، والصدمة العالمية المتمثلة في تفشي الفيروس الذي أصاب حتى الآن أكثر من 69 مليون شخص، وأودى بحياة 1.5 مليون شخص، سيُصبح الإخفاق في تطبيق مثل تلك الدفاعات بمثابة إهمال إجرامي.

جوناثان جورنال، صحفي بريطاني، عمل في وقت سابق لدى صحيفة “التايمز”، وقضى فترة من حياته في منطقة الشرق الأوسط وعمل بها، ويعيش الآن في المملكة المتحدة.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: