لم يتطرّق الرئيس الأمريكي جو بايدن لأفغانستان في خطابه الأول حول السياسة الخارجية الذي ألقاه في الرابع من فبراير، لكن ما تم إدراكه بوضوح هو أن تلك الحرب الطويلة سوف تستحوذ على انتباه الرئيس وفريقه الجديد، والأوضاع ببساطة غير مستقرة، والاتفاقية التي تفاوضت حولها إدارة ترمب منذ عام مضى والتي تقضي بسحب جميع القوات الأمريكية من أفغانستان بحلول مايو سوف تتكشّف تفاصيلها بصورة واضحة.
واقتصرت تلك الاتفاقية على طرفين هما الولايات المتحدة وحركة طالبان، أو كما جاء في نص الاتفاقية بطريقة متكررة وفظّة “الإمارة الإسلامية في أفغانستان التي لا تعترف بها الولايات المتحدة كدولة والمعروفة باسم طالبان”، وتنص الاتفاقية على إجبار طالبان على منع أية تهديدات أمنية للولايات المتحدة مقابل انسحاب تام للقوات الأمريكية التي يقارب عددها 2500 جندي، وينص النصف الثاني من الاتفاقية على أن تنخرط حركة طالبان وحكومة كابول في محادثات سلام تنتهي إلى وقف إطلاق النار ووضع خارطة طريق سياسية تحدد مستقبل أفغانستان.
وقد بدأت المحادثات الداخلية الأفغانية في الدوحة في سبتمبر من العام الماضي، حيث شاركت حكومة الرئيس أشرف غني في تلك المحادثات عل مضض، وقد انخرطت الأطراف بما فيها المجتمع المدني في مفاوضات ترمي للوصول إلى إجراءات حقيقية، لكن تلك العملية وصلت إلى طريق مسدود، وكما هو الحال في أية عملية انتقالية حساسة تعقُب حربًا أهلية؛ زادت أعمال العنف لأن كل طرف يريد تقوية موقفه قبل أن تبدأ التسوية الحقيقية حول تقاسم السُلطة.
وقد أصرّت طالبان على أنها لا تتحمّل منفردة مسؤولية تصاعُد العنف ضد الممتلكات والمؤسسات الحكومية؛ وكذا عمليات الاغتيال الأخيرة التي استهدفت عددًا من القادة البارزين في المجتمع المدني، وقد ألقت طالبان باللوم على تنظيم الدولة الإسلامية وجماعات أخرى فيما يخص تنفيذ تلك العمليات، لكن وحتى إن كان ذلك حقيقيًا؛ فإنه يدل على فشل حركة طالبان في تنفيذ تعهداتها للولايات المتحدة بتضييق الخناق على حلفاء الحركة من الجماعات الإسلامية خاصة تنظيم القاعدة، وطيلة 20 عامًا منذ قامت الولايات المتحدة بغزو أفغانستان من أجل هزيمة تنظيم القاعدة والإطاحة بطالبان من السُلطة بدا وكأن تلك الحرب تدور في حلقة مفرغة، ولو استمر الأمر على ما هو عليه الآن من التراجع العسكري وفشل المحادثات الداخلية الأفغانية؛ فإن البلاد ربما تعود إلى الحرب الأهلية مجددًا بعد نجاح طالبان في تقوية موقفها للعودة إلى السُلطة مرة أخرى.
ومن السهل إلقاء اللوم على حركة طالبان فيما آلت إليه الأمور اليوم، لكن الخبراء الإقليميين أقرّوا بأنه يجب إلقاء اللوم بشكل مماثل على النخبة السياسية الفاسدة في كابول، وكذا رفض الرئيس أشرف غني بشكل ثابت لإدراك أن عملية الانتقال السياسية تستلزم تغييرًا في القيادة، وقد اعتقد أشرف غني أنه منفردًا يجسد السيادة في أفغانستان، واليوم فإن صراع طالبان ضد حكومة كابول يستند على التشكيك في شرعية حكومة أشرف غني التي قامت قوى غربية بفرضها حسب وجهة نظر طالبان.
وقد أصدر الأسبوع الماضي “معهد الولايات المتحدة للسلام” الذي عمل بنشاط على الأراضي الأفغانية لدعم إصلاحات الحكومة ومنع النزاعات؛ تقريرًا مؤيدًا من الحزبين الديمقراطي والجمهوري يشمل بعض المقترحات للإدارة الجديدة، ودعا التقرير إلى وقف عملية سحب القوات الأمريكية من أفغانستان والمقرر لها شهر مايو، ودعا إلى ربط تلك العملية “بأساس من الشروط” يجب تنفيذها عوضًا عن تحديد ميعاد لسحب القوات الأمريكية، من أجل ضمان كيف يمكن للولايات المتحدة وضع حد لأطول الحروب التي خاضتها على مدار التاريخ، ويعكس التقرير وجهة نظر المؤسسات في واشنطن التي تعتقد أن للولايات المتحدة مصلحة أخلاقية وأمنية في استمرار دعم أفغانستان، وأن انسحاب القوات الأمريكية بشكل نهائي يجب أن يكون مستندًا على شروط بحيث لا يبدو أن الولايات المتحدة قد هُزِمت في الحرب، وعبّر التقرير عن مُعتقدًا راسخًا بأن عقودًا من التورط الأمريكي أسفرت عن تحسين حياة الكثير من الأفغان، وأدّت إلى وضع أساس لبلاد عصرية تنعم بالسلام.
ومن المفهوم أن الدبلوماسية الأمريكية والقادة العسكريين لا يمكنهم مواجهة مشهد انسحاب القوات الأمريكية باعتباره دليلًا على هزيمة قوة كبرى، لكن هذا هو النمط الحقيقي للتاريخ الأفغاني، وهو بمثابة الحقيقة التي عززتها حركة طالبان، فقد باتت نتائج تلك الاتفاقية بمثابة نصر حقيقي بالنسبة لطالبان، ومسألة التزام طالبان بالوصول إلى السلام مع ساسة كابول تعُد غير معقدة كما أراد لها المفاوض الأمريكي أن تكون، والواقع أن العديد من مستشاري مشروع معهد الولايات المتحدة للسلام قد أشاروا إلى أنه لا يوجد أساس منطقي حقيقي لتأجيل عملية الانسحاب، وأن مسألة وضع شروط للانسحاب من الممكن أن تؤدي إلى تدهور الوضع إذا ما اعتقد الأطراف أن الولايات المتحدة لا تلتزم بالاتفاقية التي قامت بالتوقيع عليها.
وهناك إشارة بسيطة على المسار الذي سوف تتخذه إدارة بايدن؛ وهو قرار الاحتفاظ بمبعوث السلام الخاص إلى أفغانستان زلماي خليل زاد، وهو من شارك في المفاوضات التي أسفرت عن اتفاقية فبراير 2020، كما أنه نجح في بناء ثقة بشكل متحفظ مع حركة طالبان، ومن ناحية أخرى فإن الرئيس أشرف غني يتخذ موقفًا عدائيًا من المفاوضات الأمريكية ومن الشروط التي وضعها “زاد” على وجه الخصوص، وخلال حوار نظمته منظمة أمريكية غير حكومية مؤخرًا أشار غني بكل سرور إلى خليل زاد باعتباره موظف بالدولة سيتلقّى تعليماته من إدارة بايدن، عوضًا عن وصفه بأنه لاعبًا هامًا في العلاقات الأمريكية الأفغانية كما هو الحال منذ ثمانينات القرن الماضي.
وحينما كان بايدن نائبًا للرئيس؛ كان على استعداد للتخفيف من التورط الأمريكي في أفغانستان، كما أنه كان حذرًا تجاه القرار الذي وافق عليه باراك أوباما في النهاية خلال العام 2009 بزيادة عدد القوات الأمريكية في أفغانستان، لذا يمكن للمرء أن يتصور أولوية بايدن اليوم وهي الالتزام بالتراجع العسكري وخفض مستوى تورط الولايات المتحدة مع الاحتفاظ بالأنشطة السياسية والتنموية الأمريكية في أفغانستان.
لكن هناك أيضًا علامات على أن الإدارة الجديدة ربما توافق على تأجيل الموعد الذي تم تحديده في مايو لسحب القوات الأمريكية بشكل نهائي من أفغانستان، وربما تقتنع الإدارة الجديدة بحجة مفادها إن البقاء لفترة أطول يوفر النفوذ المطلوب لإجبار حركة طالبان على تنفيذ تعهداتها في إطار الاتفاقية.
وربما يعكس هذا الأمر الخطوط العريضة لسياسة بايدن الخارجية، وفكرة الرئيس “أمريكا قد عادت” ربما لا تدعمها مسألة الانسحاب بشكل مفاجئ ومخزي، وهو الانسحاب الذي ربما يؤدي إلى ترك حلفاء الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلنطي (ناتو) في موقف لا يحسدون عليه فوق الأراضي الأفغانية، والمفهوم أن الفريق الجديد يحتاج إلى الوقت للتشاور مع الحلفاء، على العكس من القرارات الأحادية التي اتخذها الرئيس السابق دونالد ترامب في العام 2020 بسحب القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان وألمانيا.
وفي النهاية فإن بايدن ربما يميل إلى مد فترة الحضور الأمريكي في أفغانستان، وذلك على أمل (ربما يكون واهيًا) أن الأحوال على الأرض سوف تتحسن، وفي خطابه بمقر وزارة الخارجية تعهّد بايدن ب”بدء عودة المشاركة الأمريكية على مستوى العالم وعودة الولايات المتحدة إلى موضع القيادة، وتحفيز النشاط الدولي في مواجهة التحديات المشتركة”، والانسحاب على مهل من أفغانستان ربما يخدم هذا الهدف الكبير.
إيلين ليبسون، شغلت سابقًا منصب نائب رئيس مجلس الاستخبارات الوطنية الأمريكية، وتشغل حاليًا منصب مدير برنامج الأمن الدولي في كلية سكار للعلوم السياسية والحكومية بجامعة جورج ماسون في ولاية فرجينيا، كما شغلت سابقًا منصب الرئيس والمدير التنفيذي لمركز ستيمسون في واشنطن.