يشهد تاريخ تركيا على إهمال شديد للمرأة. وكانت “الرجعية” “والجهل” وصفًا للسيدات التي اخترن ارتداء غطاء الرأس، على عكس من اخترن عدم ارتدائه، فهن نموذجًا للمرأة العصرية والتي ترفض بشجاعة الالتزام الديني. ويرمز غطاء الرأس إلى المعركة القائمة بين قوى الحداثة والمحافظة. وبالنسبة لجيل جديد من النساء، فالحديث عن غطاء الرأس هو امرا سياسيا بقدر ما هو امرا دينيا.
وتحظر تركيا منذ أوائل ثمانيات القرن الماضي ارتداء غطاء الرأس في المؤسسات العامة، ومنها الجامعات، ولكنه تحول إلى رمزٍ لحقوق المرأة في تسعينات القرن الماضي، والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حيث نظمت النساء المسلمات حملات في حرم الجامعات في جميع أنحاء تركيا للمطالبة بحقهن في ارتداء غطاء الرأس. وغالبًا ما تجد الناشطات تجاهلاً كبيرًا من المجتمع. وبعد تعرضهن للمضايقات من جانب السلطات العلمانية، والحرمان من الوظائف في القطاع العام، وجدت الناشطات تجاهلاً من الحركة النسائية الأوسع أيضًا والسبب أنها مجموعة رجعية أصحاب “قضية واحدة”.
وبدا أن بشائر الانتصار في معركة غطاء الرأس قد هلت عندما تولى الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه، “العدالة والتنمية”، السلطة في عام 2002. وعملت النساء المحجبات بجد من أجل الحزب، وطرقن جميع الأبواب، ولكن الحظر المفروض على ارتداء أغطية الرأس في الجامعات لم ينتهي إلا بعد مرور ثماني سنوات. والأسوأ من ذلك، أن حزب العدالة والتنمية قد نسب لنفسه الفضل كله، وقلل من شأن الدور الذي لعبته العديد من الناشطات اللواتي سعت لسنوات لتحقيق هذه النتيجة، أو استصغره أو تجاهله بوضوح.
واليوم، بات غطاء الرأس – ومن ترتديه – محور أي حركة احتجاجية.
ولطالما كان حزب العدالة والتنمية ينظر إلى النساء اللواتي يرتدين غطاء الرأس على أنهن مواليات للحزب، والكثير منهن كذلك في حقيقة الأمر. ويحظى الحزب بشعبية كبيرة لدى النساء المتدينات اللواتي يقدرن دور الحزب في تمكينهن من ممارسة حياتهن الدينية علنًا، وإضفاء الشرعية على الإسلام باعتباره ركيزة أساسية للهوية الوطنية التركية. وتخشى العديد من هؤلاء النسوة فقدان تلك الحقوق إذا ما فقد “أردوغان” السلطة.
ولذلك شعر الحزب بالصدمة عندما رأي الشابات المحجبات يتظاهرن، في أوائل يناير/كانون الثاني، احتجاجًا على تعيين عضوًا في حزب العدالة والتنمية في منصب رئيس جامعة البسفور، وهي أرقى مؤسسة تعليمية في تركيا. وجرت العادة في تركيا أن يكون اختيار رؤساء الجامعات من مسؤولية أعضاء هيئة التدريس. وشجب الطلاب الحاليون والسابقون والأكاديميون على حد سواء تعيين “مليح بولو”، المرشح البرلماني السابق عن حزب العدالة والتنمية، لاستغلاله للسلطة السياسية، وهجومه على الحرية الأكاديمية، ولما في ذلك من دليل إضافي على تراجع التزام تركيا بالديمقراطية.
وكانت النساء المسلمات المحجبات ضمن أولئك الذين دافعوا عن معرض فني للطلاب يعرض ملصقًا عن أكثر المواقع الإسلامية قداسة، وتنتشر فيه أعلام المثلية الجنسية “LGBT”. وبعد أن كانت السلطات تصفهم “بالتقوى”، وجدت النساء المسلمات المحجبات أنفسهن دمى غربية غير إسلامية وغير أخلاقية وغير وطنية، وشجبهم وزير الداخلية على تويتر، ووصفهم بـ “المنحرفات”.
لخصت عالمة الاجتماع “فايزة أكينرديم”، خريجة جامعة “البسفور”، رد الفعل هذا بقولها: “عند ارتداء الحجاب أو تناول سيرته بالشكل الذي يضر بقضية النخبة السياسية، فستجد المرأة المحجبة متهمة بالفساد الأخلاقي أو الانحلال الديني.
وفي الواقع، لم تكن النساء المتدينات في تركيا – كما هو الحال في أي مكان آخر في الشرق الأوسط – كتلة متجانسة. ويضم حزب الشعب الجمهوري العلماني، وهو حزب المعارضة الرئيسي، نساء متدينات بين أعضائه. وشاركت النساء المسلمات في الاحتجاجات على خطط التنمية الحضرية في متنزه “ميدان تقسيم” في اسطنبول في عام 2013، وانضمت بعضهن إلى الجماعة اليسارية، والمسلمات المناهضات للرأس مالية. وتقول هؤلاء السيدات، أن أحدًا لم يكترث لهن في ذلك الوقت، ولم تتحسن الأمور الآن.
وتقول “سيما أورهانو”، طالبة الأدب في جامعة “البسفور”: “لا أستطيع التنفس، وكذلك أصدقائي”. هناك معضلة دائمة، فلا ننتمي إلى حي الحكومة أو الحي العلماني، نحن غرباء”.
وأُلقي القبض على طالبة أخرى، وهي “سيما ألتوندال”، وتم تقييد يديها أثناء احتجاج “بولو”، وتزعم أنها مُنعت من وضع غطاء الرأس مرة أخرى بعد سقوطه. وانتشرت أخبار اعتقالها على وسائل التواصل الاجتماعي. وبعد إطلاق سراحها في وقت لاحق من نفس اليوم، ظهرت أمام المحكمة وهي تلوح بعلامة السلام بيدٍ، وترفع سبابة اليد الأخرى، في إشارة إلى وحدانية الله. وقالت “سيما”: “نحن عباد الله وليس الدولة، وهو نحتكم له وحده”.
وشهدت السنوات الأخيرة ظهور مجموعات نسائية ومدونين يتحدثون عن تحديات الأنوثة والأمومة والنسوية من منظور إسلامي. وفي ديسمبر/كانون الأول، استضافت جمعية “هافلي” النسائية، والتي تقول إنها أول منظمة نسوية مسلمة في تركيا، مؤتمرًا عبر الإنترنت حول كيفية توافق الهوية الإسلامية مع الأهداف النسوية. ومن بين الحضور، كانت “أمينة ودود”، وهي عالمة دين أمريكية مسلمة، ولقبها سيدة الإمام، و”نجمة الروك للنسويات المسلمات”.
وتقول “روميسه جامديريلي”، إحدى المؤسسات للجمعية: “إن تطور حركة المرأة المسلمة إلى حركة نسوية مسلمة قد مكننا من مناقشة الكثير من الأمور والدفاع عنها”.
وبخلاف الجيل السابق من النساء، واللواتي اضطررن إلى خلع غطاء الرأس إذا أردن العمل في الوظائف الحكومية، تطالب الشابات المسلمات اليوم بحقهن في التعبير عن ثقافتهن وتدينهن واعتراضهن. وبالنسبة لهن، فالإيمان لا يتعارض مع قول الحقيقة لسلطة سياسية لا رادع لها.
وسلطت هؤلاء السيدات الضوء أيضًا على الحاجة إلى مراقبة المستقبل. إن تركيا بلد فتية، حيث انه ما يعادل “15%” من السكان تقل أعمارهم عن 25 عامًا. ومن الصعوبة بمكان معرفة مدى تأثير هذا الجيل الشاب من النساء اللواتي يفخرن بارتداء الحجاب، ولكن هذا التأثير لا يستهان به. وكما قالت الطالبة سيما أورهان، “ربما لا نمثل اليوم غالبية النساء المسلمات في تركيا، ولكننا أيضًا لسنا سرابًا”.
بيركو أوشليك، زميل باحث ومحاضر منتسب في جامعة كامبريدج.