من الأمور المحيرة والمتبعة قديمًا هي “حرية التعبير”. ويوظفها أحدهم للإساءة إلى ملياري مسلم تقريبًا من خلال نشر سلسلة من الرسوم التافهة للنبي محمد، وتنتفض وسائل الإعلام الغربية العالمية دفاعًا عن هذا الفعل، وتؤيد صاحبه في أن له الحق في الإساءة إلى كل من يريد. ولكن عند نشر رسم كاريكاتوري يظهر الملكة إليزابيث ملكة بريطانيا وهي تجثو بركبتيها على رقبة تلك الممثلة التي تحولت إلى دوقة، “ميغان ماركل”، فسينقلب عليك حلفاؤك السابقين جميعهم، ويصبون عليك “غضبهم”، ويصفون الرسم التوضيحي بأنه “مروّع” و”مزعج … وخاطئ على كل المستويات. “
حتى أن الكتاب الساخرون غير الناضجين في مجلة تشارلي إيبدو الفرنسية الساخرة، والذين اعتادوا على إثارة غضب الجميع، حتمًا تسائلوا أين شعار الحرية “أنا شارلي” في أعقاب غلافها الأخير الذي يصور مزاعم العنصرية والانقسامات داخل بيت الوندسور البريطاني.
ومن الواضح أن الكتاب الساخرون في الغرب سيتم الاحتفاء بهم على الأرجح ووصفهم بداعمي حرية التعبير إذا ما هاجموا الأقليات داخل مجتمعاتهم، وليس النخب الأكثر ثراء وتميزاً في أوروبا.
وأهانت صحيفة “شارلي إبدو” المسلمين لأول مرة في فبراير/شباط 2006، وكان ذلك عندما قررت المجلة إعادة طبع سلسلة من الرسوم الكاريكاتورية التي تصور النبي “محمد” والتي نشرتها في العام السابق صحيفة “يولاندس بوستن” الدنماركية، مضيفةً بعضًا من رسوماتها الخاصة. وكان العاملون في كلتا المجلتين على دراية تامة بأن تلك الرسومات فيها إساءة إلى المسلمين، الذين يرون في تصوير أي نبي – حتى الرسوم التوضيحية المحترمة – شكل من أشكال الوثنية المحرمة في الإسلام.
وفي ذلك الوقت، أدان الرئيس الفرنسي “جاك شيراك” نشر الرسوم الكاريكاتورية واصفًا إياها “بالاستفزاز الصريح”، وأضاف أنه “يجب تجنب أي شيء في إهانة لمعتقدات شخص آخر، وبالأخص المعتقدات الدينية”.
ومن ثم فحرية التعبير ليست نفسها حرية الإساءة بدون مبرر.
وفي فبراير/تشرين الثاني 2011، عادت “شارلي إبدو” إلى الواجهة مرة أخرى، وأعادت تسمية نفسها “تشارلي إبدو” على إحدى النسخ، وفيها يظهر على الغلاف رسماً كاريكاتورياً جديداً للنبي محمد. وتم إلقاء قنابل حارقة على مكاتب الصحيفة. وفي سبتمبر/أيلول 2012، وفي أعقاب الغضب الدولي بسبب إطلاق الفيلم المعادي للإسلام “براءة المسلمين”، أقدمت الصحيفة على طباعة سلسلة أخرى من الصور المسيئة للنبي، لنيل الدعم الرسمي مرة أخرى.
وقال وزير الخارجية الفرنسي “لوران فابيوس”: “هنا في فرنسا مبدأ لحرية التعبير، ويجب عدم المساس به”. و”في السياق الحالي، وبالنظر إلى هذا الفيديو السخيف الذي تم بثه، استيقظت مشاعر قوية في العديد من البلدان الإسلامية. فهل من العقلانية أو الذكاء سكب الزيت على النار؟.
وفي النهاية، وفي “7” يناير/كانون الثاني 2015، تعرضت مكاتب المجلة في باريس لهجوم من سعيد كواشي وشريف كواشي، وهما شقيقان جزائريان مولودان في فرنسا، وأسفر الهجوم عن مقتل عشرات الأشخاص، ومنهم “أحمد مرابط”، وهو ضابط شرطة مسلم. وفي اليوم التالي، لقت شرطية في إحدى ضواحي باريس حتفها على يد “أميدي كوليبالي”، وهو شخص فرنسي من أصول مالية وعلى علاقة بالأخوين. وفي اليوم التالي، احتجز “كوليبالي” رهائن في سوبر ماركت “كوشر”، مما أسفر عن مقتل أربعة أشخاص قبل أن تقتله الشرطة. وفي نفس الوقت تقريبًا، وفي تبادل لإطلاق النار، لقي الأخوان كواشي” حتفهم داخل مخبأهم في منطقة صناعية شمال شرق باريس.
وجاء التضامن مع “شارلي إبدو”، والتمسك بـ “الحق” في حرية التعبير في شكل عبارات شاملة تخدم بشكل رئيسي التأكيد على مواقف “هم ونحن” تجاه الأقليات الكامنة داخل معظم المجتمعات الغربية . ولن نستسلم “نحن” – الأغلبية البيضاء والمسيحية (من الناحية النظرية إلى حد كبير) – لـ”هم” – المتطرفون الإسلاميون الذين يهددون أسلوب حياتنا.
ما لم يكن هناك مثل هذا التهديد.
وجاء هذا “التهديد” من جانب حفنة من الرجال المخادعين والمتطرفين، ولم يكن، بأي حال من الأحوال، تهديدًا حقيقيًا لنسيج المجتمع الغربي.
لم يحاول المسلمون جميعًا بأي حال من الأحوال تقويض “أسلوب حياتنا”. وجُل ما تتمناه الغالبية العظمى من المسلمين – والأغلبية العظمى من جميع الأقليات في الدول الغربية – هو الاندماج وتحسين حياتهم وحياة أطفالهم. وكان رد الجالية المسلمة على الرسوم الكاريكاتورية هو نفس رد جميع الأقليات التي تذكرت دورها المهمش في المجتمع – فكان هز الرأس حزنًا.
ومع ذلك، كان الرد على هجمات باريس في عام 2015، على الرغم من أن الفاعل مجرد حفنة من الناس، يستهدف، دون منطق أو مبرر، جميع المسلمين. ومن هنا، كان الغرض من الرسوم الكاريكاتورية الجارحة هو إهانة جميع المسلمين.
وكشفت رد فعل وسائل الإعلام الغربية على ما تتعرض له صحيفة “شارلي إبدو” عن فراغ أخلاقي.
واختارت العديد من وسائل الإعلام، ومنها واشنطن بوست، إعادة طباعة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة، بحجة أن عدم القيام بذلك يعني “الاستسلام” لما تم تصويره على نطاق واسع على أنه اعتداء على المبدأ الثمين المتمثل في حرية التعبير. والأكثر من ذلك، وهو تبعات الفشل في تحديد الخط الفاصل بين حرية التعبير والهجوم غير المبرر الذي لا يمكن أن يخدم أي غرض سوى إدامة التعصب والكراهية العنصرية.
واختارت العديد من وسائل الإعلام، بما في ذلك “واشنطن بوست”، إعادة طباعة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة، بحجة أن عدم القيام بذلك يعني “الاستسلام” لما تم تصويره على نطاق واسع على أنه اعتداء على المبدأ الثمين المتمثل في حرية التعبير.
وكان هذا التصرف أكثر من مجرد موقف بلا معنى، فهو من تبعات الفشل في تحديد الخط الرفيع بين حرية التعبير والهجوم غير المبرر الذي لا يمكن أن يخدم أي غرض سوى إدامة التعصب والكراهية العنصرية.
واليوم، على الأقل، تتفق وسائل الإعلام الغربية جميعها على أن الرسوم الكاريكاتورية التي تصور الملكة إليزابيث وهي جاثية على رقبة ميغان ماركيل، والتي تستحضر وفاة الأمريكي الأسود جورج فلويد تحت ركبة ضابط شرطة في “مينيابولس” في عام 2020، هو فعل صادم غير مقبول.
ومن ثم، ألم يحن الوقت لنشر شعار “ميم الإنترنت الجديد”؟، وهو “أنا شاريلي” – طالما أنه ينتقد المسلمين.”
جوناثان جورنال، صحفي بريطاني، عمل في وقت سابق لدى صحيفة “التايمز”، وقضى فترة من حياته في منطقة الشرق الأوسط وعمل بها، ويعيش الآن في المملكة المتحدة.