أثبتت صادرات الصين من لقاحات جائحة كورونا (كوفيد-19) أنها أداة قوية في منظومة القوة الناعمة الصينية، وعبر إيصال اللقاحات المجانية لجميع أنحاء العالم خاصة الدول الأقل دخلًا نجحت الصين في إظهار حسن نيتها وتقديم نفسها بصفتها المُنقِذ وليس الجاني فيما يخص جائحة كورونا، واليوم فإن بيجين تعمل بالتركيز على مسألة أخرى بغرض تلميع صورتها على المستوى الدولي ودعم قوتها الناعمة: ألا وهي قضية التغير المناخي.

وعبر سلسلة من اللقاءات والتصريحات؛ حاول الرئيس تشي جين بينغ أن يثبت جديّة الصين فيما يخص قضية التغير المناخي والإجراءات التي تهدف إلى الحد من آثار تلك الظاهرة، وخلال قمة “يوم الأرض” التي جرت في الثاني والعشرين من إبريل برعاية الرئيس جو بايدن تعهّد تشي جين بينغ بفرض رقابة صارمة على “محطات توليد الطاقة التي تعمل بالفحم”، وأشار إلى الاستراتيجية التي تبلورت في الخطة الخمسية رقم 14 من أجل تقييد استهلاك الفحم، وكرر الرئيس الصيني الوعد الذي قطعه العام الماضي بتقليل انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون بحلول العام 2030 والقضاء على الكربون نهائيًا بحلول العام 2060.

لكن القمة التي تمت برعاية الولايات المتحدة؛ كانت الأخيرة ضمن سلسلة من الاجتماعات التي عقدها تشي جين بينغ مع قادة العالم، تلك الجهود التي أكّدت على تركيز بيجين على قضية التغير المناخي، وقبل قمة الأرض بيومين أجرى تشي جين بينغ مكالمة هاتفية مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان؛ حيث شدد الرئيس الصيني على “أهمية قضية التغير المناخي” والإعلان عن دعم الصين لل”أفكار والإجراءات التي تقوم بها المملكة بغرض تعزيز الحوكمة العالمية للمناخ”.

وقبلها بأسبوع عقد تشي جين بينغ قمة مع كل من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون، واتفق القادة الثلاثة على المزيد من التعاون لمكافحة ظاهرة التغير المناخي، بينما أعلن تشي جين بينغ أن الصين ستقبل باتفاق العام 2016 الذي يرمي إلى التخلص من غازات الاحتباس الحراري المعروفة بال”هيدروفلوروكربون” (بعدها بحوالي أسبوع اتفقت ايضًا كل من الصين وألمانيا على تعزيز التعاون بين البلدين في مواجهة التغير المناخي).

وخلال اللقاء الثلاثي فإن البيان الصيني أشار أيضًا إلى ضرورة “عدم إقحام قضية التغير المناخي في المساومات الجيوسياسية”، واليوم بات من الواضح أن مبعث البيان الصيني المتكرر حول سياسة التغير المناخي لا يكمن في الخوف على البيئة فقط، بل أن هناك رغبة للاستفادة من تلك القضية على الصعيد الدبلوماسي.

ومنذ البداية شدّدت إدارة بايدن على أن سياستها تجاه الصين لن تختلف كثيرًا عن سياسة إدارة ترمب؛ التي كانت ترى أن العلاقات مع الصين هي علاقات منافسة استراتيجية، لكن إدارة بايدن أكدت أيضًا على أنها ستسعى للتعاون مع الصين إذا ما كان هذا الأمر ملائمًا وضروريًا، خاصة فيما يتعلّق بالقضايا الدولية التي تستلزم استجابة جماعية.

والواقع أن التغير المناخي يعُد بمثابة المسألة السياسية الواضحة التي يغلب فيها التعاون: وقد جاء قرار تعيين جون كيري مبعوثًا خاصًا للمناخ ليُبرِز أهمية هذا الأمر بالنسبة للإدارة والتركيز على مفاوضات المناخ الدولية.

لذا هناك فرصة أمام الصين للاستفادة من قضية التغير المناخي لتعزيز الروابط مع الولايات المتحدة، ومحاربة الظروف الدولية التي ساعدت بصورة نسبية على تحول الصعود الصيني إلى صورة شديدة العدوانية.

وبالمِثل فإن التأكيد على قضية المناخ في دبلوماسية بيجين سمحت لها بتحسين صورتها الدولية بصورة أوسع نطاقًا، ولا يوجد أكثر من مواجهة التغير المناخي لإثبات الشهامة والمسؤولية التي تتمتع بها الصين، وهذا الأمر يثبت أيضًا أمام قطاع واسع من المجتمع الدولي أن الصين لديها إرادة لتقديم التضحيات والعمل لخير البشرية، وإثبات حسن النية وقوة النفوذ بين الأمم خاصة في آسيا وأوربا، التي باتت تتسم بالحذر من الدبلوماسية الفظة التي اتبعتها بيجين خلال السنوات الأخيرة.

وقد ساهم التغير المناخي في التخفيف من حدة دبلوماسية “الذئب المحارب” الصينية؛ التي شهدت قيام رجال الدبلوماسية بالدفاع بقوة وأحيانًا بخشونة عن صورة ومصالح الصين خلال الخطابات العامة.

لذا فإن القلق حول التغير المناخي اليوم يعُد بعيدًا كل البعد عن موقف الصين من تلك القضية منذ 10 سنوات مضت، وبيجين التي شعرت بالقلق من القيود التي قد تواجه التنمية الصينية عملت على إفساد أية جهود للتوصُل إلى اتفاق ذات معنى خلال المؤتمر الخامس عشر للمناخ الذي عُقِد في كوبنهاجن في العام 2009.

ومن حينها باتت الصين عضوًا نشطًا بشكل متصاعد في سياسة التغير المناخي، ويعود هذا الأمر في جانب منه إلى القلق الداخلي في الصين حول قضية التغير المناخي، وقضايا البيئة أصبحت ذات أهمية قصوى بالنسبة للصين خلال الفترة الحساسة في تاريخ تنمية البلاد في نهاية السبعينات من القرن الماضي، وهناك 5 أهداف من أصل 20 هدفًا شملتها قائمة الخطة الخمسية الرابعة عشرة كانت معنية بقضايا البيئة، وبالنسبة للمعارضة العامة التي شهدتها بعض القضايا مثل تلوث الهواء فإن التفاني في تنفيذ سياسة التغير المناخي يساعد على تحسين صورة الصين أمام الجمهور في الداخل والخارج.

علاوة على ذلك؛ فإن بيجين اليوم ترى أن هناك مكاسب اقتصادية للاستثمار في الصناعات الصديقة للمناخ مثل الطاقة المتجددة، وقد استحوذت الصين بشكل فعال على السوق الدولي للطاقة الشمسية عبر الإقدام على إجراءات تجارية قوية، كما أن الاستثمار الصيني يستهدف صناعات أخرى سريعة النمو في المستقبل.

لكن تحول سياسة الصين تجاه التغير المناخي خاصة على مدار الأشهُر الستة الماضية؛ يُرى على أن مبعثه تقديم صورة أكثر عطفًا للصين أمام العالم فيما يخص قضية تتمتع بأهمية شديدة، والتعهدات الصينية التاريخية الخاصة بسياسة التغير المناخي لم تكن كافية حتى اليوم لتحقيق أهداف اتفاق باريس للمناخ؛ والتي تتلخّص في الإبقاء على درجة حرارة الأرض أقل بمقدار 2 درجة مئوية.

واليوم يبدو أن بيجين تعمل على تدعيم التزامها بمكافحة التغير المناخي، يأتي ذلك في الوقت الذي يشهد قيام الولايات المتحدة بالتأكيد مجددًا على تلك القضية باعتبارها الرائد في مجال المناخ، كما يشهد حث واشنطن للمجتمع الدولي على فعل المزيد، وبلا شك هناك مكاسب دبلوماسية للصين في إطار تلك العملية، لكن مسألة حفاظ الصين على تعهداتها أو الاستمرار في الالتزام حال تغيُر الإدارة الأمريكية في غضون 4 سنوات هو أمر سنعرفه في المستقبل.

كريستيان لو ميير هو مؤسِس Arcipel، وهي مؤسسة للاستشارات الاستراتيجية لها مقرين في لندن ولاهاي، وسابقًا شغل منصب كبير المستشارين في مؤسسة مستقلة بأبو ظبي، وشغل منصب كبير الأساتذة في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية ومقره لندن @c_lemiere

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: