في 29 أبريل/نيسان، دون سابق إنذار، أغلق تركيا البلاد بالكامل لمدة ثلاثة أسابيع. وفي غضون 24 ساعة، انتحر أربعة أشخاص ولنفس السبب، وهو الإحباط من مستقبلهم المالي. وبلغ عدد المنتحرين في أبريل/نيسان 129 شخصًا. ومع ذلك، هناك أمرين يمتنع الرئيس رجب طيب أردوغان وحكومته التطرق لهما، وهما: التأثير النفسي للمشاكل المرتبطة بجائحة كورونا، ونقص المساعدة المالية.

قد يكون العدد الحقيقي لحالات الانتحار أكبر مما هو عليه، لأن صحافة الجناح اليساري هي المصدر الوحيد لعدد الإصابات بالفيروس. وطالبت السياسية المعارضة “غامز تاشجير” الحكومة باتخاذ ما يلزم من إجراءات، واصفةً الزيادة في حالات الانتحار بأنها “جائحة في حد ذاتها”.

ومما يدعو للحزن، أن الزيادة في معدلات الانتحار في تركيا ليست بالأمر الجديد. وفقًا لمعهد الإحصاء التركي، ارتفعت حالات الانتحار بنسبة “89%” في العشرين عامًا الماضية. وفي ظل الاقتصاد المتعثر، وعدم استقرار الليرة التركية، وارتفاع معدلات التضخم أضعافًا مضاعفة، وارتفاع تكلفة السلع الأساسية، وانعدام فرص عمل ثابتة، بات الكثير من الناس على حافة الهاوية، ثم جاءت جائحة كورونا لتجهز عليهم.

وبعد مرور أكثر من عام على وقوع الجائحة، وضع صندوق النقد الدولي تركيا، وكذلك ألبانيا والمكسيك، ضمن الدول التي قدمت أقل مساعدة مالية لمواطنيها. وهذا ما أكده التقرير الذي نشره اتحاد النقابات العمالية الثورية في تركيا في فبراير/شباط. وورد فيه أن الحكومة لم تنفق سوى ما يعادل “1,1%” فقط من الناتج المحلي الإجمالي على حزم المساعدات الصحية والمالية مجتمعة. وتبين الإحصاءات الحكومية نفسها أن 250 ألف شخص تم تسجيلهم كعاطلين عن العمل في فبراير/شباط وحده، في حين أن ملايين آخرين ليس لديهم دخل منتظم، وهذا يزيد من الضغوط على الدولة.

وقال أردوغان إن خلال الجائحة قدم حوالي 3.7 مليون مواطن ممن أجبروا على تقليص ساعات عملهم طلبات للحصول على مساعدة مالية قصيرة الأجل لزيادة رواتبهم المخفضة، وتلقى مليون آخرون إعانات بطالة. ولكن المساعدات المالية المتاحة نادرا ما تذهب للناس الأشد احتياجًا لها. ويقول الدكتور “فيدات بولوت”، الأمين العام للرابطة الطبية التركية، “أن الفقراء قد حصلوا على “10%” فقط من المساعدات المالية، بينما حصل رجال الأعمال على “90%”.

والفئات التي تضررت بشدة من الجائحة هي الشركات الصغيرة، وأصحاب الأعمال الحرة والعاملين المؤقتين – ولا أحد منهم مؤهل للحصول على حزم المساعدات الحكومية. ويشير تقرير البنك الدولي عن المراقبة الاقتصادية في تركيا إلى أن “30%” من السكان العاملين في البلاد هم من العمالة المؤقتة أو غير الرسمية. وتوضح الأرقام الرسمية الصادرة عن جريدة سجل التجار والحرفيين الأتراك أن “273” شركة صغيرة تُشهر إفلاسها كل يوم في العام 2020، وهذا يزيد من الضغوط على الدولة.

قد لا يوجد الكثير من القواسم المشتركة بين العمال والموسيقيين، سوى المصير المؤسف المتمثل في إهمالهم بالكامل تقريبًا أثناء الجائحة. من السهل صرف النظر عن الوسائل الترفيهية واعتبارها أمرًا تافهًا وليس جزءًا “رئيسيًا” من الاقتصاد، ولكن تلك نظرة خاطئة. حيث يعمل في مجال الموسيقى أكثر من مليون شخص في تركيا، ولم يتلق أي منهم أي دعم مالي من الحكومة، سواء في شكل مساعدة قصيرة الأجل أو إعانات بطالة. ولذلك، زعمت نجمة موسيقى الروك الالتركية “غاي سو أكيول” في تغريدة لها على توتير أن “105” موسيقي قد انتحروا خلال الجائحة.

وادعت نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض، “جامز أكوز اليجز”، أن حجب الدعم المالي عن الفنانين كان “غير دستوري”، واقترحت على وزارة الثقافة والسياحة حذف كلمة “الثقافة” العالمية من عنوانها “إذا لم تساعد المحتاجين “. وقدمت نائبة الحزب طلبًا لاستخدام الضريبة التي تجمعها الحكومة على منتجات مثل أقراص DVD والأقراص المدمجة لتمويل الفنانين المحتاجين، ولكن الحكومة رفضت طلبها.

وفي ظل الظروف السيئة والأجور المنخفضة وساعات العمل الطويلة، كان العمال الحرفيين يعانون بالفعل حتى قبل ظهور جائحة كورونا في تركيا. وأفادت هيئة مراقبة صحة وسلامة العمال في تركيا أن حالات الانتحار ارتفعت بمقدار خمسة أضعاف في السنوات الست الماضية. ويتوقع اتحاد النقابات العمالية الثورية المزيد من حالات الانتحار بعد رفع الحظر المفروض على تسريح العمال في غضون أربعة أشهر.

ويعجز معظم هؤلاء الناس عن تغطية نفقاتهم. فالجميع مدينون. إنهم يستهلكون ما تبقى من مدخراتهم. “إنها أوقات عصيبة”، هكذا يقول نبيل إرماك جيتين، عضو الاتحاد الكونفدرالي، في مقابلة مع صحيفة إندبندنت تركيا، في حين حذر الدكتور دوغان كوكدمير، أستاذ علم النفس في جامعة باشكنت، من “عدوى الانتحار”.

وأخيرًا، وفي 17 مايو/آيار، بدا أن الرئيس قد أدرك أخيرًا مدى اليأس الذي يعاني منه بلده. وأعلن عن صندوق بقيمة 555 مليون دولار لتوزيع مدفوعات لمرة واحدة بقيمة 3000 ليرة تركية (356 دولارًا) إلى أولئك الأكثر تضرراً من الجائحة، بما في ذلك سائقي سيارات الأجرة وعمال المطاعم والموسيقيين.

ورغم أنها بادرة تستحق الإشادة، غير أن الحكومة تغفل عن إدراك الصورة الكُلية. قد تساعد الإعانة المالية لمرة واحدة الأشخاص على دفع فواتيرهم وإطعام أنفسهم لبرهة من الزمن، ولكنها لن تخفف الضغط النفسي الناتج عن القلق بشأن المستقبل.

إن الخسارة الاقتصادية الناتجة عن الجائحة باتت واضحة ويمكن حسابها. ويستطيع المرء أيضًا تحديد أشكال فقدان التفاعل الاجتماعي وتمييزها. ولكن التأثير على الصحة العقلية أقل قابلية للقياس وقد لا يتم الشعور به لأشهر أو حتى سنوات قادمة. وفي تجاهل الحكومة للصحة العقلية رفضها للمعاناة الحالية التي يشهدها الشعب، وتكديسًا للمشاكل في المستقبل.

 

ألكسندرا دي كرامر، صحفية مقيمة في اسطنبول. تناولت الربيع العربي من بيروت أثناء عملها كمراسلة في الشرق الأوسط لصحيفة “ميلييت”، وتتراوح أعمالها من الشؤون الجارية إلى الثقافة، ولها مقالات في صحيفة “Monocle”، ومجلة “Courier Magazine”، وصحيفة “Maison Francaise” الفرنسية، وصحيفة “Istanbul Art ews” التركية.

SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER

Get our newest articles instantly!

Thank you! Your coupon code will be sent to your email once your details are verified.

Unlock Your 50% Discount!

Choose your status: