في العام 2018؛ ومع كل ما تشهده الأبحاث العلمية من حقائق تدعوا للقلق؛ قام باحثون في مركز الأبحاث المشتركة التابع للمفوضية الأوربية بتطبيق مبدأ “التحليلات المُبتكرة للحوادث السابقة التي شهدت صراعات وتعاون حول موارد المياه العابرة للحدود؛ وذلك من أجل تحديد المناطق التي من الممكن أن تشهد “ظهور قضايا تخص المياه في الحاضر والمستقبل”، وبحيث يتم “السعي بحماس من أجل التعاون حول المياه كي نتجنب أية توترات مُحتملة”، ونحن اليوم من خلال هذه الوثيقة المنشورة – نحاول تقديم “أسلوب مُبتكر لتقييم المخاطر السياسية المتعلقة بالمياه: وتحديد المناطق ومؤشر البيانات للمخاطر السياسية المتعلقة بالمياه”، والتي من الممكن أن تشهد تطبيق المصطلح الانفعالي “حروب المياه”، وفي النهاية فهو مصطلح يظهر كثيرًا في عناوين الأخبار بوسائل الإعلام المحلية، ولا يظهر بذات الصورة في المنشورات الأكاديمية الجادة، لكن أولى حروب المياه الكبرى في القرن الحادي والعشرين تعُد بمثابة “الخطر الكامن”، وفي منطقة القرن الأفريقي فإن هذا الخطر بات أقرب لأن يتحول إلى حقيقة مأساوية.
ولم تكن مفاجأة لأحد؛ حتى هؤلاء الذين لا يهتمون كثيرًا للتطورات التي تشهدها المنطقة؛ أن حوض النيل بات في نظر باحثين على رأس قائمة المناطق المرشحة للانفجار على المستوى الدولي.
واليوم ومع تجاهُل أديس أبابا احتجاجات السودان ومصر؛ والمضي قدمًا في تعبئة خزان سد النهضة، وهو ما سيؤدي إلى احتجاز نسبة هائلة من المياه المتدفقة جنوبًا عبر النيل الأزرق، مما سيجعل من الصعب أن نتصور كيف يمكن للدول الثلاث الوصول إلى حل سلمي خلال تلك المواجهة.
في الثامن من يوليو أصدر مجلس الأمن قراراً يحث الدول الثلاث على “الوصول إلى حل قائم على التعاون سعيًا لتحقيق التنمية المستدامة للجميع، وذلك بروح “النهر الواحد والشعب الواحد والرؤية الواحدة”، لكن هذا الأمر يعُد بمثابة أمل صعب المنال، وعلى الرغم من محاولات التدخُل التي تمت بنيّة صادقة وقامت بها منظمات مثل الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية؛ ناهيك عن الجهود الدبلوماسية الحالية التي تقوم بها دول الخليج والإدارة الأمريكية الجديدة، وقد فشلت الدول الثلاث على مدار 10 سنوات في الوصول إلى حل قائم على التعاون، وذلك منذ أعلنت إثيوبيا نيتها بناء سد ضخم لإنتاج الطاقة الكهرومائية.
ولا يمكن للمرء أن يجادل في منطق أحقية إثيوبيا في استغلال الثروات الطبيعية الموجودة في أراضيها، وبالمِثل من يمكن أن يوافق على حرمان مصر من مصدر المياه الذي اعتمد عليه وجودها على مدار 1000 عام؟.
والواقع أن الاحتياجات الخاصة بكل طرف تبدو متعارضة، لكن ما يحدث ما هو إلا مقدمة لأزمة شديدة يشهدها حوض النيل باتت تلوح في الأفق، وتتشارك حوض النيل 11 دولة و260 مليون نسمة – 58% منهم يعتمدون اعتمادًا تامًا على مياه النيل – وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن عدد سكان حوض النيل سيزيد بنسبة 50% على مدار الأعوام الخمس والعشرين القادمة، وخلال تلك الفترة لن تزيد مياه النيل ولو نقطة واحدة.
والأسوأ هو أن العديد من دول حوض النيل ستنظر إلى نجاح تجربة إثيوبيا في إنشاء أكبر السدود الكهرومائية على مستوى أفريقيا، وبالمنطق فإن تلك الدول ستحتاج لبناء سدود على النيل حيث يزيد عدد سكانها مما يؤدي بالتبعية إلى زيادة الطلب على الكهرباء ومتطلبات الحياة العصرية، وقد أعلنت جنوب السودان الشهر الماضي عن خطط لبناء سد على النيل الأبيض، وهو أحد الروافد التي تتجه المياه منها إلى السودان ومصر، مما يهدد كلاهما بالحرمان من المزيد من المياه، كما أن إثيوبيا لديها خطط لبناء 3 سدود أخرى على الأقل.
وخلال الاستراتيجية الخاصة بها على مدار 10 سنوات، والتي نشرتها مبادرة حوض النيل في العام 2017؛ ومع المحاولات الفاشلة التي قامت بها دول حوض النيل للتأكيد على التعاون المشترك بين دول الحوض التي تسعى للحصول على فرص متساوية؛ فقد توقعت المبادرة أن نمو دول حوض النيل إذا ما سار على المعدل الحالي سنحتاج إلى نيل ونصف إضافيين بحلول العام 2050، واليوم قد تكون التوقعات أسوأ من ذلك، وفي جميع الحالات فإن الدراسات الأكاديمية شددت على أنه لا يمكن أن يكون هناك نيل آخر، وحينها سيصبح شعار مبادرة حوض النيل “نهر واحد وشعب واحد ورؤية واحدة” بمثابة شعار أجوف.
وهذا يدفع بكل من مصر والسودان وإثيوبيا إلى البحث عن حل لتلك الأزمة، وإيجاد صيغة ما لإدارة مياه نهر النيل الذي يعد أحد مصادر المياه الدولية العابرة للحدود، وعدم اعتبار النيل بمثابة مورد مياه تريد كل دولة على حدة استغلاله وتعمل وفقًا لمصالحها الشخصية، لكن وللأسف يجب التعامل مع هذا الأمر باعتباره حقيقة واقعة، وحتى في منظور العالم المثالي الخيالي؛ والذي تُعتبر فيه دول حوض النيل الإحدى عشر دولة واحدة؛ فإن إدارة نهر ضخم باعتباره مصدر مياه موحد بات أمرًا صعب المنال؛ خاصة مع الفشل في وضع حل للمشكلة الأساسية التي باتت تهدد أمن منطقة القرن الأفريقي وبالتبعية المحيط الأوسع منها.
والأمر ببساطة يتعلق بزيادة في عدد السكان مع شح موارد المياه التي تكفيهم.
وأسوأ السيناريوهات تكهنت به تقارير قليلة الصيت نشرها أكاديميون مصريون، وبالنسبة لمصر فإن فقدان قدر هائل من حصتها في نهر النيل يعني تدمير الاقتصاد القائم على الزراعة وانتشار البطالة على نطاق واسع، كما سيؤدي إلى حدوث مجاعة واضطرابات اجتماعية وأزمة لاجئين تتمثل في نزوح الملايين من البلاد، مما سيؤدي إلى تبعات تطال دول الجوار وتذكرنا بالأحداث المروعة التي شهدها البحر المتوسط؛ والتي بلغت ذروتها في العام 2016 حين لقي 5000 لاجئ حتفهم غرقًا في البحر.
ويأتي ذلك بالطبع إلى جانب التوترات العديدة التي تشهدها المنطقة؛ من الأزمة السياسية المستمرة في الصومال إلى الصراع المرير الذي يشهده إقليم تيغراي في إثيوبيا.
وفي إبريل توقّع جيفري فيلتمان المبعوث الأمريكي الجديد إلى منطقة القرن الأفريقي؛ أنه إذا ما تحولت الاضطرابات في إثيوبيا بتعدادها البالغ 110 مليون نسمة إلى أعمال عنف على نطاق واسع يمتد إلى خارج تيغراي؛ فإن المأساة السورية ستبدو ضئيلة إلى جانب المأساة التي ستشهدها إثيوبيا.
وإذا ما وضعنا معضلة المياه إلى جانب هذا السيناريو؛ حينها سوف تصير هناك كارثة إقليمية غير مسبوقة.
جوناثان جورنال؛ صحفي بريطاني عمل سابقًا في صحيفة التايمز، وعمل وأقام في منطقة الشرق الأوسط وهو الآن يعيش في المملكة المتحدة.