عاب على تركيا في السنوات الأخيرة إدارتها الكارثية للشئون السياسة على المستوى الاقتصادي والنقدي. وازداد الوضع سوءًا مع ظهور جائحة فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19”. وحتى هذا العام، فقدت الليرة التركية أكثر من “10%” من قيمتها مقابل الدولار الأمريكي. ومنذ عام 2003، عندما أصبح رجب طيب أردوغان رئيسًا للوزراء، سجلت الليرة انخفاضًا صادمًا بنسبة “65%. ولذلك لا غرابة في أن يتجاوز التضخم نسبة “16%” في مايو/آيار (وأرقام يونيه/حزيران غير متاحة). وبالنظر إلى هذا المعدل، ستتضاعف الأسعار خلال أربعة أشهر ونصف. وفي ظل تلك الآفاق القاتمة بخصوص النمو الاقتصادي والتوظيف واستقرار الأسعار، يتجه الشباب التركي كما هو متوقع نحو خيارات استثنائية كوسيلة للتحايل على الوسائل التقليدية، وذلك بالتداول في العملات الرقمية المشفرة. وحقق بعض الشباب أرباحًا طائلة، ووقع آخرون ضحية للاحتيال. ومع ذلك، هناك خيار أفضل يعتمد على التكنولوجيا التي تدعم العملات الرقمية المشفرة – إنها تكنولوجيا “البلوك تشين”.
من السهولة بمكان التحول إلى العملات الرقمية المشفرة. وفي غضون عامين، أقالت إدارة الرئيس الحالي، أردوغان، ثلاثة رؤساء للبنك المركزي، وهو ما عمق من أزمة العملة المحلية وسوق الأوراق المالية والاقتصاد. ولذلك، لجأ الأتراك أولاً إلى العملات الأجنبية التقليدية كوسيلة للحفاظ على القيمة. وفي أغسطس/آب 2020 – عندما أثار انخفاض حاد في الليرة المخاوف من حدوث أزمة ديون أخرى – ارتفعت الودائع بالعملات الأجنبية إلى ما يقرب من نصف إجمالي الودائع. بعد ذلك، ووسط الارتفاع الهائل في قيم العملات الرقمية المشفرة هذا العام، حدثت تحول متزايدة نحو العملات الرقمية المشفرة. ولم تعد تلك العملات الرقمية المشفرة وسيلة للحفاظ على القيمة فحسب، بل باتت أيضًا وسيلة لتحقيق مكاسب كبيرة من المضاربة.
ووفقًا لتقرير صادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي هذا العام، استخدم”16%” من الأتراك العملات الرقمية المشفرة أو يمتلكونها –رغم توجيهات السلطات الدينية بأن العملات الرقمية المشفرة “غير مسموح بها” في الإسلام. وقد لا يكون لهذا التوجيه أدنى علاقة بالدين، بالنظر إلى أن الحكومة التركية تشكك منذ فترة طويلة في أي أداة مالية غير خاضعة للرقابة. حتى أن PayPal محظورة منذ عام 2016. ولطالما كان إقناع الناس بالتخلي عن العملات الرقمية المشفرة أمرًا صعب المنال. ووفقًا لشركة “Chainalysis”، وهي شركة متخصصة في بيانات “البلوك تشين”، فإن أصحاب العملات الرقمية المشفرة في تركيا قد حققوا مكاسب تعادل 300 مليون دولار أمريكي في عام 2020.
وفي أغسطس/آب 2018، شهدت العملات الرقمية المشفرة ارتفاعًا لأول مرة – وذلك عندما وصلت الليرة إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق. وفي هذا الشهر، شهد حجم التداول على منصةBtcTurk، وهي أكبر منصة تداول للعملات المشفرة في البلاد، زيادة قدرها “130%” خلال فترة واحدة مدتها 24 ساعة. واليوم، يبلغ متوسط حجم التداول اليومي للعملات الرقمية المشفرة ربع مثيله في بورصة اسطنبول. وأفادت الصحف المحلية أن حجم التداول اليومي للعملات الرقمية المشفرة على أكبر منصتين للعملات الرقمية، وهما BtcTurk و Paribu، قد تجاوز المليار دولار هذا العام.
ومع ذلك، ليس بالضرورة أن يكون الوضع ورديًا. ففي 21 أبريل/نيسان، أوقفت بورصة العملات المشفرة Thodexومقرها إسطنبول جميع عمليات التداول، والسبب أنها كانت تبرم صفقة مع مستثمرين خارجيين. وكانت Thodex ثالث أكبر منصة تداول للعملات الرقمية المشفرة في تركيا. وفي الواقع، ثمة مزاعم أن مؤسسها، فاروق فاتح أوزير، قد فر إلى ألبانيا بعد تحويله أصولاً من العملة المشفرة بقيمة 108 ملايين دولار إلى حسابات غير معروفة، ووفقًا لوزارة الداخلية. بالنسبة للكثيرين، كانت منصةThodex دائمًا خيارً جيدًا لدرجة يصعب تصديقها. فعلى سبيل المثال، باعت المنصة عملات dogecoins بسعرٍ منخفض، وأتاحت لمستخدمي المنصة فرصة الفوز بسيارة بورشه، وساعات أبل، وأجهزة كمبيوتر محمولة، وبلاي ستيشن وما إلى ذلك.
وعلى عكس مستثمري العملات الرقمية المشفرة في أماكن أخرى، فإن العديد من حاملي العملات المشفرة في تركيا يلجأون إليها بدافع العجز وسط الأزمة الاقتصادية التي تضرب البلاد. ووفقًا لإسماعيل حقي بولات، محاضر في مجال العملات الرقمية المشفرة في جامعة “قادر هاس”، تمثل “العملات الرقمية المشفرة في الأساس أمرين للشباب في تركيا، وهما: المستقبل والحرية”.
ولكن العنصر المفقود في تلك الصيغة هو الاستقرار. ويمكن القول بأن العملات الرقمية المشفرة هي أحد مكونات محفظة المستثمر من العملات الأجنبية، ووسيلة لموازنة المخاطر. وكما أشار “أمين جون سيرير”، المدير الشريك في مبادرة العملات المشفرة والعقود الذكية في جامعة كورنيل، “سيرتفع التضخم كنتيجة مباشرة لجائحة فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19″، وهذا يعود بالنفع على العملات المشفرة”. ومع ذلك، يبدو أن الأتراك الشباب يضعون جميع مدخراتهم في سباق المضاربة. وفي ذلك خطر. وارتفع سعر البيتكوين إلى حوالي 63000 دولار للعملة في مايو/آيار، والآن يتم تداوله عند 34000 دولار تقريبًا.
والأمر الأكثر منطقية هو أن يكون هذا الشباب المولع بالتكنولوجيا – وتمتلك تركيا الكثير منهم – على معرفة بالتكنولوجيا الأساسية للعملات الرقمية المشفرة ليتمكنوا من بناء منتجات وخدمات جديدة والتحايل على الاقتصاد المحلي . واستخدمت تقنية “البلوك تشين” لفعل كل شيء بدءًا من إنتاج العقود غير القابلة للتزوير وتأمين البيانات الطبية وصولاً إلى إنشاء أنظمة تشغيل إنترنت الأشياء. ويتسم سوق تلك الأشياء بأنه سوقًا غير مقيد بالحدود الوطنية. وفي الوقت الذي باتت عملية التنقل مقيدة، لم يعد العمل في قطاع التكنولوجيا متمركزًا في موقع العمل. ولأن مجال سلسلة “البوك تشين” لا يمكن للسلطات تنظيمه، فبإمكان رجال الأعمال الشجعان في تركيا تجاوز القيود التركية تمامًا.
وقد يكون أحد أسباب الاندفاع نحو العملات الرقمية المشفرة هو فقدان الثقة في أن تدعم الحكومة قيمة الليرة. لكن العملات الرقمية المشفرة لا تقدم بالضرورة الأمان الذي يحتاجه المستثمرون. وبدلاً من ذلك، يجب على الأتراك أن ينظروا إلى فرصة الربح من تلك التكنولوجيا بعيدًا عن حدود الأمة التركية – ماديًا ونظريًا. وبعد ذلك ربما يستثمر هؤلاء الأتراك بعضًا من هذه الأرباح في عدد قليل من العملات الرقمية المشفرة.
ألكسندرا دي كرامر، صحفية مقيمة في اسطنبول. تناولت الربيع العربي من بيروت أثناء عملها كمراسلة في الشرق الأوسط لصحيفة “ميلييت”، وتتراوح أعمالها من الشؤون الجارية إلى الثقافة، ولها مقالات في صحيفة “Monocle“، ومجلة “Courier Magazine”، وصحيفة “Maison Francaise” الفرنسية، وصحيفة “Istanbul Art ews” التركية.